للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مِثْلَ اقْتِتَالِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي الْيَمَنِ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ، وَمُقَاتَلَةِ الْفِلَسْطِينِيِّينَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ انْتِصَارًا لِأَصْنَامِهِمْ، وَمُقَاتَلَةِ الْحَبَشَةِ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ انْتِصَارًا لِبَيْعَةِ الْقُلَّيْسِ الَّتِي بَنَاهَا الْحَبَشَةُ فِي الْيَمَنِ، وَالْأُمَمِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ الْإِسْلَامِ وَنَاوَوُهُ وَقَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ أَهْلَهُ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْبَيِّنَاتِ دَلَائِلَ صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتكون الْآيَة بإنحاء عَلَى الَّذِينَ عَانَدُوا النَّبِيءَ وَنَاوَوُا الْمُسْلِمِينَ وَقَاتَلُوهُمْ، وَتَكُونُ الْآيَةُ عَلَى هَذَا ظَاهِرَةَ التَّفَرُّعِ عَلَى قَوْلِهِ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا [الْبَقَرَة: ٢٤٤] إِلَخ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ «مِنْ بَعْدِهِمْ» ضَمِيرَ الرُّسُلِ عَلَى إِرَادَةِ التَّوْزِيعِ، أَيِ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِ كُلِّ رَسُولٍ مِنَ الرُّسُلِ، فَيَكُونُ مُفِيدًا أَنَّ أُمَّةَ كُلِّ رَسُولٍ مِنَ الرُّسُلِ اخْتَلَفُوا وَاقْتَتَلُوا اخْتِلَافًا وَاقْتِتَالًا نَشَآ مِنْ تَكْفِيرِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا كَمَا وَقَعَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عُصُورٍ كَثِيرَةٍ بَلَغَتْ فِيهَا طَوَائِفُ مِنْهُمْ فِي الْخُرُوجِ مِنَ الدِّينِ إِلَى حَدِّ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَكَمَا وَقَعَ لِلنَّصَارَى فِي

عُصُورٍ بَلَغَ فِيهَا اخْتِلَافُهُمْ إِلَى حَدِّ أَنْ كَفَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَتَقَاتَلَتِ الْيَهُودُ غَيْرَ مَرَّةٍ قِتَالًا جَرَى بَيْنَ مَمْلَكَةِ يَهُوذَا وَمَمْلَكَةِ إِسْرَائِيلَ، وَتَقَاتَلَتِ النَّصَارَى كَذَلِكَ مِنْ جَرَّاءِ الْخِلَافِ بَيْنَ الْيَعَاقِبَةِ وَالْمَلَكِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَأَشْهَرُ مُقَاتَلَاتِ النَّصَارَى الْحُرُوبُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي نَشَأَتْ فِي الْقَرْنِ السَّادِسِ عَشَرَ مِنَ التَّارِيخِ الْمَسِيحِيِّ بَيْنَ أَشْيَاعِ الْكَاثُولِيكِ وَبَيْنَ أَشْيَاعِ مَذْهَبِ لُوثِيرَ الرَّاهِبِ الْجِرْمَانِيِّ الَّذِي دَعَا النَّاسَ إِلَى إِصْلَاحِ الْمَسِيحِيَّةِ وَاعْتِبَارِ أَتْبَاعِ الْكَنِيسَةِ الْكَاثُولِيكِيَّةِ كُفَّارًا لِادِّعَائِهِمْ أُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ، فَعَظُمَتْ بِذَلِكَ حروب بَين فرانسا وَأَسْبَانْيَا وَجِرْمَانْيَا وَانْكِلْتِرَا وَغَيْرِهَا مِنْ دُوَلِ أُورُوبَّا.

وَالْمَقْصُودُ تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ مَا وَقَعَ فِيهِ أُولَئِكَ، وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ تَحْذِيرًا مُتَوَاتِرًا

بِقَوْلِهِ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»

، يُحَذِّرُهُمْ مَا يَقَعُ مِنْ حُرُوبِ الرِّدَّةِ وَحُرُوبِ الْخَوَارِجِ بِدَعْوَى التَّكْفِيرِ، وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ من دَلَائِل النبوءة الْعَظِيمَةِ.

وَوَرَدَ فِي «الصَّحِيحِ» قَوْلُهُ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ»

، وَذَلِكَ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا أَنَّهُ الْقِتَالُ عَلَى اخْتِلَافِ الْعَقِيدَةِ.