للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فِعْلٌ جَاءَ عَلَى زِنَةِ الْمُفَاعَلَةِ، وَلَا يعرف لحاجّ فِي الِاسْتِعْمَالِ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ دَالٌّ عَلَى وُقُوعِ الْخِصَامِ وَلَا تُعْرَفُ الْمَادَّةُ الَّتِي اشْتُقَّ مِنْهَا. وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ الْحُجَّةَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْبُرْهَانُ الْمُصَدِّقُ لِلدَّعْوَى مَعَ أَنَّ حَاجَّ لَا يُسْتَعْمَلُ غَالِبًا إِلَّا فِي مَعْنَى الْمُخَاصَمَةِ قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ [غَافِر: ٤٧] مَعَ قَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص: ٦٤] ، وَأَنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّهُ يُفِيدُ الْخِصَامَ بِبَاطِلٍ، قَالَ تَعَالَى: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ [الْأَنْعَام: ٨٠] وَقَالَ: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمرَان: ٢٠] وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. فَمَعْنَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ أَنَّهُ خَاصَمَهُ خِصَامًا بَاطِلًا فِي شَأْنِ صِفَاتِ اللَّهِ رَبِّ إِبْرَاهِيمَ.

وَالَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ كَافِرٌ لَا مَحَالَةَ لِقَوْلِهِ: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ نُمْرُودُ بْنُ فَالِخِ بْنِ عَابِرِ بْنِ شَالِحِ بْنِ أَرْفَخَشْدَ بْنِ سَامِ بْنِ كَوْشِ بْنِ حَامِ بْنِ نُوحٍ، فَيَكُونُ أَخَا (رَعوَ) جَدِّ إِبْرَاهِيمَ. وَالَّذِي يُعْتَمَدُ أَنَّهُ مَلِكٌ جَبَّارٌ، كَانَ مَلِكًا فِي بَابِلَ، وَأَنَّهُ الَّذِي بَنَى مَدِينَةَ بَابِلَ، وَبَنَى الصَّرْحَ الَّذِي فِي بَابِلَ، وَاسْمُهُ نُمْرُودُ- بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ فِي آخِرِهِ- وَيُقَالُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَلَمْ تَتَعَرَّضْ كُتُبُ الْيَهُودِ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ وَهِيَ فِي الْمَرْوِيَّاتِ.

وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ رَبٍّ عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَالْإِضَافَةُ لِتَشْرِيفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَيَجُوزُ عَوْدُهُ إِلَى الَّذِي، وَالْإِضَافَةُ لِإِظْهَارِ غَلَطِهِ كَقَوْلِ ابْنِ زَيَّابَةَ:

نُبِّئْتُ عَمْرًا غَارِزًا رَأْسَهُ ... فِي سِنَةٍ يُوعِدُ أَخْوَالَهُ

أَيْ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُرُوءَةِ أَنْ يُظْهِرَ شَرًّا لِأَهْلِ رَحِمِهِ.

وَقَوْلُهُ: أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ تَعْلِيلٌ حُذِفَتْ مِنْهُ لَامُ التَّعْلِيلِ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ حَاجَّ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى هَذَا الْغَلَطِ الْعَظِيمِ الَّذِي سَهَّلَهُ عِنْدَهُ ازْدِهَاؤُهُ وَإِعْجَابُهُ بِنَفْسِهِ، فَهُوَ تَعْلِيلٌ مَحْضٌ وَلَيْسَ عِلَّةً غَائِيَّةً مَقْصُودَةً لِلْمُحَاجِّ مِنْ حِجَاجِهِ. وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنْ

يَكُونَ تَعْلِيلًا غَائِيًّا أَيْ حَاجَّ لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ آتَاهُ الْمُلْكَ، فَاللَّامُ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ لِمَعْنًى يُؤَدَّى بِحَرْفٍ غَيْرِ اللَّامِ، وَالدَّاعِي لِهَاتِهِ الِاسْتِعَارَةِ التَّهَكُّمُ، أَيْ أَنَّهُ وَضَعَ الْكُفْرَ مَوْضِعَ الشُّكْرِ كَمَا فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الْوَاقِعَة: ٨٢] ، أَيْ جَزَاءَ رِزْقِكُمْ. وَإِيتَاءُ الْمُلْكِ مَجَازٌ فِي التَّفَضُّلِ عَلَيْهِ بِتَقْدِيرِ أَنْ جَعَلَهُ مَلِكًا وَخَوَّلَهُ ذَلِكَ، وَيَجِيءُ تَفْصِيلُ هَذَا الْفِعْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٨٣] . قِيلَ: كَانَ نُمْرُودُ أَوَّلَ مَلِكٍ فِي الْأَرْضِ وَأَوَّلَ مَنْ وَضَعَ التَّاجَ عَلَى رَأْسِهِ.