الْخُرُوجَ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ حَثَّ النَّاسَ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَكَانَ الْجَيْشُ يَوْمَئِذَ بِحَاجَةٍ إِلَى الْجِهَازِ- وَهُوَ جَيْشُ الْعُسْرَةِ- فَجَاءَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ: «عَلَيَّ جِهَازُ مَنْ لَا جِهَازَ لَهُ» فَجَهَّزَ الْجَيْشَ بِأَلْفِ بَعِيرٍ بِأَقْتَابِهَا وَأَحْلَاسِهَا وَقِيلَ جَاءَ بِأَلْفِ دِينَارٍ ذَهَبًا فَصَبَّهَا فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ دَرَجَاتٌ كَثِيرَةٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا الله تَعَالَى لأنّها تَتَرَتَّبُ عَلَى أَحْوَالِ الْمُتَصَدِّقِ وَأَحْوَالِ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ وَأَوْقَاتِ ذَلِكَ وَأَمَاكِنِهِ. وَلِلْإِخْلَاصِ وَقَصْدِ الِامْتِثَالِ وَمَحَبَّةِ الْخَيْرِ لِلنَّاسِ وَالْإِيثَارِ عَلَى النَّفْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحُفُّ بِالصَّدَقَةِ وَالْإِنْفَاقِ، تَأْثِيرٌ فِي تَضْعِيفِ الْأَجْرِ، وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
وَأَعَادَ قَوْلَهُ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِظْهَارًا لِلِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الصِّلَةِ.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ جَاءَ فِي عطفه بشم مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يُعْطَفَ بِالْوَاوِ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «لِإِظْهَارِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْإِنْفَاقِ وَتَرْكِ الْمَنِّ وَالْأَذَى، وَأَنَّ تَرْكَهُمَا خَيْرٌ مِنْ نَفْسِ الْإِنْفَاقِ» يَعْنِي أَنَّ ثمَّ للتَّرْتِيب الرتبي لَا لِلْمُهْلَةِ الزَّمَنِيَّةِ تَرْفِيعًا لِرُتْبَةِ تَرْكِ الْمَنِّ وَالْأَذَى عَلَى رُتْبَةِ الصَّدَقَةِ لِأَنَّ الْعَطَاءَ قَدْ يَصْدُرُ عَنْ كَرَمِ النَّفْسِ وَحُبِّ الْمَحْمَدَةِ فَلِلنُّفُوسِ حَظٌّ فِيهِ مَعَ حَظِّ الْمُعْطَى، بِخِلَافِ تَرْكِ الْمَنِّ وَالْأَذَى فَلَا حَظَّ فِيهِ لنَفس الْمُعْطِي فإنّ الْأَكْثَر يميلون إِلَى التبجّح والتطاول على الْمُعْطى، فالمهلة فِي (ثمَّ) هُنَا مجازية إِذْ شُبِّهُ حُصُولُ الشَّيْءِ الْمُهِمِّ- فِي عِزَّةِ حُصُولِهِ- بِحُصُولِ الشَّيْءِ الْمُتَأَخِّرِ زَمَنُهُ، وَكَأَنَّ الَّذِي دَعَا الزَّمَخْشَرِيَّ إِلَى هَذَا أَنَّهُ رَأَى مَعْنَى الْمُهْلَةِ هُنَا غَيْرَ مُرَادٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ حُصُولُ الْإِنْفَاقِ وَتَرْكُ الْمَنِّ مَعًا.
وَالْمَنُّ أَصْلُهُ الْإِنْعَامُ وَالْفَضْلُ، يُقَالُ مَنَّ عَلَيْهِ مَنًّا، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى عَدِّ الْإِنْعَامِ عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر: ٦] ، وَهُوَ إِذَا ذُكِرَ بَعْدَ الصَّدَقَةِ وَالْعَطَاءِ تَعَيَّنَ لِلْمَعْنَى الثَّانِي.
وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَنُّ فِي الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِالتَّطَاوُلِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالرِّيَاءِ بِالْإِنْفَاقِ، وَبِالتَّطَاوُلِ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ يُجَهِّزُهُمْ أَوْ يَحْمِلُهُمْ، وَلَيْسَ مِنَ الْمَنِّ التَّمَدُّحُ بِمَوَاقِفِ
الْمُجَاهِدِ فِي الْجِهَادِ أَوْ بِمَوَاقِفِ قَوْمِهِ، فَقَدْ قَالَ الْحُرَيْشُ بْنُ هِلَالٍ الْقُرَيْعِيُّ يَذْكُرُ خَيْلَهُ فِي غَزْوَةِ فَتْحِ مَكَّةَ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute