وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ٢٦٥] الْآيَةَ. وَقَدْ وَصَفَ الْجَنَّةَ بِأَعْظَمِ مَا يَحْسُنُ بِهِ أَحْوَالُ الْجَنَّاتِ وَمَا يُرْجَى مِنْهُ تَوَفُّرُ رَيْعِهَا، ثُمَّ وَصَفَ صَاحِبَهَا بِأَقْصَى صِفَاتِ الْحَاجَةِ إِلَى فَائِدَةِ جَنَّتِهِ، بِأَنَّهُ ذُو عِيَالٍ فَهُوَ فِي حَاجَةٍ إِلَى نَفْعِهِمْ وَأَنَّهُمْ ضُعَفَاءُ- أَيْ صِغَارٌ- إِذِ الضَّعِيفُ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» هُوَ الْقَاصِرُ، وَيُطْلَقُ الضَّعِيفُ عَلَى الْفَقِيرِ أَيْضًا، قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً [الْبَقَرَة: ٢٨٢] ، وَقَالَ أَبُو خَالِدٍ الْعَتَّابِيُّ:
لَقَدْ زَادَ الْحَيَاةَ إِلَيَّ حُبًّا ... بَنَاتِي إِنَّهُنَّ مِنَ الضِّعَافِ
وَقَدْ أَصَابَهُ الْكِبَرُ فَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْكَسْبِ غَيْرَ تِلْكَ الْجَنَّةِ، فَهَذِهِ أشدّ الْأَحْوَال الْحِرْصِ كَقَوْلِ الْأَعْشَى:
كَجَابِيَةِ الشَّيْخِ الْعِرَاقِيِّ تَفْهَقُ
فَحَصَلَ مِنْ تَفْصِيلِ هَذِهِ الْحَالَةِ أَعْظَمُ التَّرَقُّبِ لِثَمَرَةِ هَذِهِ الْجَنَّةِ كَمَا كَانَ الْمُعْطِي صَدَقَتَهُ فِي تَرَقُّبٍ لِثَوَابِهَا.
فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ، أَيْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ تَقْلَعُ الشَّجَرَ وَالنَّبَاتَ، فِيهَا نَارٌ أَيْ شِدَّةُ حَرَارَةٍ- وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِرِيحِ السَّمُومِ، فَإِطْلَاقُ لَفْظِ نَارٍ عَلَى شِدَّةِ الْحَرِّ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، فَأَحْرَقَتِ الْجَنَّةَ- أَيْ أَشْجَارَهَا- أَيْ صَارَتْ أَعْوَادُهَا يَابِسَةً، فَهَذَا مُفَاجَأَةُ الْخَيْبَةِ فِي حِينِ رَجَاءِ الْمَنْفَعَةِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَيَوَدُّ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَحْذِيرٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً [الحجرات: ١٢] . والهيأة الْمُشَبَّهَةُ محذوفة وَهِي هيأة الْمُنْفِقِ نَفَقَةً مُتْبَعَةً بِالْمَنِّ وَالْأَذَى.
رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ يَوْمًا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَ تَرَوْنَ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ الْآيَةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: «اللَّهُ أَعْلَمُ» ، فَغَضِبَ عُمَرُ وَقَالَ: «قُولُوا نَعْلَمُ أَوْ لَا نَعْلَمُ» ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ» ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا ابْنَ أَخِي قُلْ وَلَا تَحْقِرْ نَفْسَكَ» ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
«ضُرِبَتْ مَثَلًا لِعَمَلٍ» ، قَالَ عُمَرُ: «أَيُّ عَمَلٍ» ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «لِعَمَلٍ» ، قَالَ: صَدَقْتَ، لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجل إِلَيْهِ الشَّيْطَان لَمَّا فَنِيَ عُمْرُهُ فَعَمِلَ فِي الْمَعَاصِي حَتَّى أَحْرَقَ عَمَلَهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute