للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَرَادَ فَاهْنَئِي. وَيُطْلَقُ تَارَةً عَلَى لَازَمِهِ مِنْ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ فَيَدُلُّ عَلَى التَّسَامُحِ فِي الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ كَقَوْلِ الطِّرِمَّاحِ:

لَمْ يَفُتْنَا بالوتر قوم وللضّ ... يم رِجَالٌ يَرْضَوْنَ بِالْإِغْمَاضِ

فَإِذَا أَرَادُوا الْمُبَالَغَةَ فِي التَّغَافُلِ عَن الْمَكْرُوه الشَّديد قَالُوا أَغْمَضَ عَيْنَهُ عَلَى قَذًى وَذَلِكَ لِأَنَّ إِغْمَاضَ الْجَفْنِ مَعَ وُجُودِ الْقَذَى فِي الْعَيْنِ. لِقَصْدِ الرَّاحَةِ مِنْ تَحَرُّكِ الْقَذَى، قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ زُرَارَةَ الكلائي (١) :

وأغمضت الجفون عَلَى قَذَاهَا ... وَلَمْ أَسْمَعْ إِلَى قَالٍ وَقِيلِ

وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ جَعْلِ الْكَلَامِ إِخْبَارًا، هُوَ تَقْيِيدٌ لِلنَّفْيِ. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ جَعْلِ النَّفْيِ بِمَعْنَى النَّهْيِ فَهُوَ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ أَمَا لَا تَأْخُذُوهُ إِلَّا إِذَا تَغَاضَيْتُمْ عَنِ النَّهْيِ وَتَجَاهَلْتُمُوهُ.

وَقَوْلُهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ تَذْيِيلٌ، أَيْ غَنِيٌّ عَنْ صَدَقَاتِكُمُ الَّتِي لَا تَنْفَعُ الْفُقَرَاءَ، أَوِ الَّتِي فِيهَا اسْتِسَاغَةُ الْحَرَامِ. حَمِيدٌ، أَيْ شَاكِرٌ لِمَنْ تَصَدَّقَ صَدَقَةً طيّبة. وافتتحه باعلموا لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ [الْبَقَرَة: ٢٢٣] ، أَوْ نُزِّلَ الْمُخَاطَبُونَ الَّذِينَ نُهُوا عَنِ الْإِنْفَاقِ مِنَ الْخَبِيثِ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ

غَنِيٌّ فَأَعْطَوْا لِوَجْهِهِ مَا يَقْبَلُهُ الْمُحْتَاجُ بِكُلِّ حَالٍ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ يَحْمَدُ مَنْ يُعْطِي لِوَجْهِهِ مِنْ طَيِّبِ الْكَسْبِ.

وَالْغَنِيُّ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى مَا تَكْثُرُ حَاجَةُ غَالِبِ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَلِلَّهِ الْغِنَى الْمُطْلَقُ فَلَا يُعْطَى لِأَجْلِهِ وَلِامْتِثَالِ أَمْرِهِ إِلَّا خَيْرَ مَا يُعْطِيهِ أَحَدٌ لِلْغَنِيِّ عَنِ الْمَالِ.

وَالْحَمِيدُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ شَدِيدُ الْحَمْدِ لِأَنَّهُ يُثْنِي عَلَى فَاعِلِي الْخَيْرَاتِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مَحْمُودٌ، فَيَكُونُ حَمِيدٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ فَتَخَلَّقُوا بِذَلِكَ لِأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَالَاتٌ، فَكُونُوا أَغْنِيَاءَ الْقُلُوبِ عَنِ الشُّحِّ مَحْمُودِينَ عَلَى صَدَقَاتِكُمْ، وَلَا تُعْطُوا صَدَقَاتٍ تُؤْذِنُ بِالشُّحِّ وَلَا تشكرون عَلَيْهَا.

[٢٦٨]


(١) الكلائي نِسْبَة إِلَى الكلاء بِوَزْن جَبَّار محلّة بِالْبَصْرَةِ قرب الشاطئ. والكلاء الشاطي. وَهَذِه الأبيات قَالَهَا بعد أَن مكث عَاما بِبَاب مُعَاوِيَة لم يُؤذن لَهُ ثمَّ أذن لَهُ وَأَدْنَاهُ وأولاه مصر، وَقَبله:
دخلت على مُعَاوِيَة بن حَرْب ... وَلَكِن بعد يأس من دُخُول

وَمَا نلْت الدُّخُول عَلَيْهِ حَتَّى ... حللت محلّة الرجل الذَّلِيل