للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ إِلَى نَفَاسَةِ مَا وَعَظَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَتَنْبِيهُهُمْ إِلَى أَنَّهُمْ قَدْ أَصْبَحُوا بِهِ حُكَمَاءَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِي جَاهِلِيَّة جُهَلَاءَ. فَالْمَعْنَى: هَذَا مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي آتَاكُمُ اللَّهُ، فَهُوَ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [الْبَقَرَة: ٢٣١] .

قَالَ الْفَخْرُ: «نَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي لِأَجْلِهِ وَجَبَ تَرْجِيح وعد الرحمان عَلَى وَعْدِ الشَّيْطَانِ هُوَ أنّ وعد الرحمان تُرَجِّحُهُ الْحِكْمَةُ وَالْعَقْلُ، وَوَعْدَ الشَّيْطَانِ تُرَجِّحُهُ الشَّهْوَةُ وَالْحِسُّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمَا يَأْمُرَانِ بِتَحْصِيلِ اللَّذَّةِ الْحَاضِرَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ حُكْمَ الْحِكْمَةِ هُوَ الْحُكْمُ الصَّادِقُ الْمُبَرَّأُ عَنِ الزَّيْغِ، وَحُكْمَ الْحِسِّ وَالشَّهْوَةِ يُوقِعُ فِي الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ. فَتَعْقِيبُ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً [الْبَقَرَة: ٢٦٨] ، بِقَوْلِهِ: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا وَعَدَ بِهِ تَعَالَى مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالْفَضْلِ مِنَ الْحِكْمَةِ، وَأَنَّ الْحِكْمَةَ كُلَّهَا مِنْ عَطَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِيهَا مَنْ يَشَاءُ.

وَالْحِكْمَةُ إِتْقَانُ الْعِلْمِ وَإِجْرَاءُ الْفِعْلِ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ الْعِلْمِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ: نَزَلَتِ الْحِكْمَةُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ، وَعُقُولِ الْيُونَانِ، وَأَيْدِي الصِّينِيِّينَ. وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْحُكْمِ- وَهُوَ الْمَنْعُ- لِأَنَّهَا تَمْنَعُ صَاحِبَهَا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْغَلَطِ وَالضَّلَالِ، قَالَ تَعَالَى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ [هود: ١] ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْحَدِيدَةُ الَّتِي فِي اللِّجَامِ وَتُجْعَلُ فِي فَمِ الْفَرَسِ، حَكَمَةً.

وَمَنْ يَشَاءُ اللَّهُ تَعَالَى إِيتَاءَهُ الْحِكْمَةَ هُوَ الَّذِي يَخْلُقُهُ مُسْتَعِدًّا إِلَى ذَلِكَ، مِنْ سَلَامَةِ عَقْلِهِ وَاعْتِدَالِ قُوَاهُ، حَتَّى يَكُونَ قَابِلًا لِفَهْمِ الْحَقَائِقِ مُنْقَادًا إِلَى الْحَقِّ إِذَا لَاحَ لَهُ، لَا يَصُدُّهُ عَنْ ذَلِكَ هَوًى وَلَا عَصَبِيَّةٌ وَلَا مُكَابَرَةٌ وَلَا أَنَفَةٌ، ثُمَّ يُيَسِّرُ لَهُ أَسْبَابَ ذَلِكَ مِنْ حُضُورِ الدُّعَاةِ وَسَلَامَةِ الْبُقْعَةِ مِنَ الْعُتَاةِ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ تَوَجُّهُهُ إِلَى اللَّهِ بِأَنْ يَزِيدَ أَسْبَابَهُ تَيْسِيرًا وَيَمْنَعَ عَنْهُ مَا يَحْجُبُ الْفَهْمَ فَقَدْ كَمُلَ لَهُ التَّيْسِيرُ. وَفُسِّرَتِ الْحِكْمَةُ بِأَنَّهَا مَعْرِفَةُ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ بِمَا تَبْلُغُهُ الطَّاقَةُ، أَيْ بِحَيْثُ لَا تَلْتَبِسُ الْحَقَائِقُ الْمُتَشَابِهَةُ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ وَلَا يَغْلَطُ فِي الْعِلَلِ وَالْأَسْبَابِ.

وَالْحِكْمَةُ قُسِّمَتْ أَقْسَامًا مُخْتَلِفَةَ الْمَوْضُوعِ اخْتِلَافًا بِاخْتِلَافِ الْعُصُورِ وَالْأَقَالِيمِ. وَمَبْدَأُ ظُهُورِ عِلْمِ الْحِكْمَةِ فِي الشَّرْقِ عِنْدَ الْهُنُودِ الْبَرَاهِمَةِ وَالْبُوذِيِّينَ، وَعِنْدَ أَهْلِ الصِّينِ