وَقَوْلُهُ: لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً بَيَانٌ لِقَوْلِهِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ بَيَانًا ثَانِيًا، لِكَيْفِيَّةِ حُسْبَانِهِمْ أَغْنِيَاءَ فِي أَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ. وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ تَقْدِيمَهُ عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ أُخِّرَ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا سبقه من الحقّ عَلَى تَوَسُّمِ احتياجهم بأنّهم محصرون لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ.
فَأَنْتَ تَرَى كَيْفَ لَمْ يُغَادِرِ الْقُرْآنُ شَيْئًا مِنَ الْحَثِّ عَلَى إِبْلَاغِ الصَّدَقَاتِ إِلَى أَيْدِي الْفُقَرَاءِ إِلَّا وَقَدْ جَاءَ بِهِ، وَأَظْهَرَ بِهِ مَزِيدَ الِاعْتِنَاءِ.
وَالْإِلْحَافُ الْإِلْحَاحُ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَنُصِبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُبَيِّنٌ لِلنَّوْعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ ضَمِيرِ يَسْأَلُونَ بِتَأْوِيلِ مُلْحِفِينَ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَقَدْ نُفِيَ عَنْهُمُ السُّؤَالُ الْمُقَيَّدُ بِالْإِلْحَافِ أوِ الْمُقَيَّدُونَ فِيهِ بِأَنَّهُمْ مُلْحِفُونَ- وَذَلِكَ لَا يُفِيدُ نَفْيَ صُدُورِ الْمَسْأَلَةِ مِنْهُمْ- مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ أَصْلًا، وَقَدْ تَأَوَّلَهُ الزَّجَاجُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ السُّؤَالِ وَنَفْيُ الْإِلْحَافِ مَعًا كَقَوْلِ امْرِئِ
الْقَيْسِ:
عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ يُرِيدُ نَفْيَ الْمَنَارِ وَالِاهْتِدَاءِ، وَقَرِينَةُ هَذَا الْمَقْصُودِ أَنَّهُمْ وُصِفُوا بِأَنَّهُمْ يُحْسَبُونَ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ [غَافِر: ١٨] أَيْ لَا شَفِيعَ أَصْلًا، ثُمَّ حَيْثُ لَا شَفِيعَ فَلَا إِطَاعَةَ، فَأَنْتَجَ لَا شَفِيعَ يُطَاعُ، فَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي نَفْيِ الشَّفِيعِ لِأَنَّهُ كَنَفْيِهِ بِنَفْيِ لَازِمِهِ وَجَعَلُوهُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْكِنَايَةِ، وَقَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: «إِنَّمَا تَحْسُنُ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ إِذَا كَانَ الْقَيْدُ الْوَاقِعُ بَعْدَ النَّفْيِ بِمَنْزِلَةِ اللَّازِمِ لِلنَّفْيِ لِأَنَّ شَأْنَ اللَّاحِبِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَنَارٌ، وَشَأْنَ الشَّفِيعِ أَنْ يُطَاعَ، فَيَكُونَ نَفْيُ اللَّازِمِ نَفْيًا لِلْمَلْزُومِ بِطَرِيقٍ بُرْهَانِيٍّ، وَلَيْسَ الْإِلْحَافُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السُّؤَالِ كَذَلِكَ، بَلْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ ضِدُّ الْإِلْحَافِ- وَهُوَ الرِّفْقُ وَالتَّلَطُّفُ- أَشْبَهَ باللَّازِمِ» (أَيْ أَنْ يَكُونَ الْمَنْفِيُّ مُطَّرِدَ اللُّزُومِ لِلْمَنْفِيِّ عَنْهُ) . وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِنْ سَأَلُوا سَأَلُوا بِتَلَطُّفٍ خَفِيفٍ دُونَ إِلْحَافٍ، أَيْ إِنَّ شَأْنَهُمْ أَنْ يَتَعَفَّفُوا، فَإِذَا سَأَلُوا سَأَلُوا بِغَيْرِ إِلْحَافٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ فَصْلَ الْجُمْلَةِ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا كَالْبَيَانِ لَهَا، وَالْأَظْهَرُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ- الَّذِي جُعِلَ فِي «الْكَشَّافِ» ثَانِيًا- وَأَجَابَ الْفَخْرُ بِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِالتَّعَفُّفِ فَأَغْنَى عَنْ ذِكْرِ أَنَّهُمْ لَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute