للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَهُوَ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَلِأَنَّ بَعْدَ الْآيَةِ قَوْله: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ.

وَمِنْ عَادَاتِ الْقُرْآنِ أَنْ يَذْكُرَ أَحْوَالَ الْكُفَّارِ إِغْلَاظًا عَلَيْهِمْ، وَتَعْرِيضًا بِتَخْوِيفِ الْمُسْلِمِينَ، ليكرّه إيَّاهُم لأحوال أَهْلِ الْكُفْرِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَمِّ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ فَمُرَادٌ مِنْهُ أَيْضًا تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مِثْلِهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ قَالَ

اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْبَقَرَة: ٢٧٥] وَقَالَ تَعَالَى:

وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [الْبَقَرَة: ٢٧٦] .

ثُمَّ عَطَفَ إِلَى خِطَابِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ [الْبَقَرَة: ٢٧٨] الْآيَاتِ، وَلَعَلَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَنْكَفَّ عَنْ تَعَاطِي الرِّبَا أَوْ لَعَلَّ بَعْضَهُمْ فُتِنَ بِقَوْلِ الْكُفَّارِ: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا. فَكَانَتْ آيَةُ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ مَبْدَأَ التَّحْرِيمِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِغْلَاقَ بَابِ الْمَعْذِرَةِ فِي أَكْلِ الرِّبَا وَبَيَانًا لِكَيْفِيَّةِ تَدَارُكِ مَا سَلَفَ مِنْهُ.

وَالرِّبَا يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا السَّلَفُ بِزِيَادَةٍ عَلَى مَا يُعْطِيهِ الْمُسَلِّفُ، وَالثَّانِي السَّلَفُ بِدُونِ زِيَادَةٍ إِلَى أَجَلٍ، يَعْنِي فَإِذَا لَمْ يُوَفِّ الْمُسْتَسْلِفُ أَدَاءَ الدَّيْنِ عِنْدَ الْأَجَلِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ زِيَادَةً يَتَّفِقَانِ عَلَيْهَا عِنْدَ حُلُولِ كُلِّ أَجَلٍ.

وَقَوْلُهُ: لَا يَقُومُونَ حَقِيقَةُ الْقِيَامِ النُّهُوضُ وَالِاسْتِقْلَالُ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى تَحَسُّنِ الْحَالِ، وَعَلَى الْقُوَّةِ، مِنْ ذَلِكَ قَامَتِ السُّوقُ، وَقَامَتِ الْحَرْبُ. فَإِنْ كَانَ الْقِيَامُ الْمَنْفِيُّ هُنَا الْقِيَامَ الْحَقِيقِيَّ فَالْمَعْنَى: لَا يَقُومُونَ- يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ- إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ، أَيْ إِلَّا قِيَامًا كَقِيَامِ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَامَ الْمَجَازِيَّ فَالْمَعْنَى إِمَّا عَلَى أَنَّ حِرْصَهُمْ وَنَشَاطَهُمْ فِي مُعَامَلَاتِ الرِّبَا كَقِيَامِ الْمَجْنُونِ تَشْنِيعًا لِجَشَعِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى تَشْبِيهُ مَا يُعْجِبُ النَّاسَ مِنِ اسْتِقَامَةِ حَالِهِمْ، وَوَفْرَةِ مَالِهِمْ، وَقُوَّةِ تِجَارَتِهِمْ، بِمَا يَظْهَرُ مِنْ حَالِ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ حَتَّى تَخَالَهُ قَوِيًّا سَرِيعَ الْحَرَكَةِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ شَيْئًا. فَالْآيَةُ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَعِيدٌ لَهُمْ بِابْتِدَاءِ تَعْذِيبِهِمْ مِنْ وَقْتِ الْقِيَامِ لِلْحِسَابِ إِلَى أَنْ يَدْخُلُوا النَّارَ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا، وَهِيَ عَلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ