للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مَنْفَعَةً أَكْثَرَ مِنْ مِقْدَارِ الْمَالِ الَّذِي أَخَذَهُ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَّجِرَ بِهِ فَيَرْبَحَ لِأَنَّ هَذِهِ مَنْفَعَةٌ مَوْهُومَةٌ غَيْرُ مُحَقَّقَةِ الْحُصُولِ، مَعَ أَنَّ أَخْذَ الزَّائِدِ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ.

وَهَذِهِ التَّفْرِقَةُ أَقْرَبُ مِنْ تَفْرِقَةِ الْقَفَّالِ، لَكِنَّهَا يَرِدُ عَلَيْهَا أَنَّ انْتِفَاعَ الْمُقْتَرِضِ بِالْمَالِ فِيهِ سَدُّ حَاجَاتِهِ فَهُوَ كَانْتِفَاعِ الْمُشْتَرِي بِالسِّلْعَةِ، وَأَمَّا تَصَدِّيهِ لِلْمُتَاجَرَةِ بِمَالِ الْقَرْضِ أَوْ بِالسِّلْعَةِ الْمُشْتَرَاةِ فَأَمْرٌ نَادِرٌ فِيهَا.

فَالْوَجْهُ عِنْدِي فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرِّبَا أَنَّ مَرْجِعَهَا إِلَى التَّعْلِيلِ بِالْمَظِنَّةِ مُرَاعَاةٌ لِلْفَرْقِ بَيْنَ حَالَيِ الْمُقْتَرِضِ وَالْمُشْتَرِي، فَقَدْ كَانَ الِاقْتِرَاضُ لِدَفْعِ حَاجَةِ الْمُقْتَرِضِ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ التَّدَايُنَ هَمًّا وَكَرْبًا، وَقَدِ اسْتَعَاذَ مِنْهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَالُ التَّاجِرِ حَالُ التَّفَضُّلِ. وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ حَالَيِ الْمُسْلِفِ وَالْبَائِعِ، فَحَالُ بَاذِلِ مَالِهِ لِلْمُحْتَاجِينَ لِيَنْتَفِعَ بِمَا يَدْفَعُونَهُ مِنَ الرِّبَا فَيَزِيدَهُمْ ضيقا لأنّ المتسلّف مَظِنَّةُ الْحَاجَةِ، أَلَا تَرَاهُ لَيْسَ بِيَدِهِ مَالٌ، وَحَالُ بَائِعِ السِّلْعَةِ تِجَارَةً حَالُ مَنْ تَجَشَّمَ مَشَقَّةً لِجَلْبِ مَا يَحْتَاجُهُ الْمُتَفَضِّلُونَ وَإِعْدَادِهِ

لَهُمْ عِنْدَ دُعَاءِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ مَعَ بَذْلِهِمْ لَهُ مَا بِيَدِهِمْ مِنَ الْمَالِ. فَالتِّجَارَةُ مُعَامَلَةٌ بَيْنَ غَنِيَّيْنِ:

أَلَا تَرَى أَنَّ كِلَيْهِمَا بَاذِلٌ لِمَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَآخِذٌ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَالْمُتَسَلِّفُ مَظِنَّةُ الْفَقْرِ، وَالْمُشْتَرِي مَظِنَّةُ الْغِنَى، فَلِذَلِكَ حَرَّمَ الرِّبَا لِأَنَّهُ اسْتِغْلَالٌ لِحَاجَةِ الْفَقِيرِ وَأَحَلَّ الْبَيْعَ لِأَنَّهُ إِعَانَةٌ لِطَالِبِ الْحَاجَاتِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْإِقْرَاضَ مِنْ نَوْعِ الْمُوَاسَاةِ وَالْمَعْرُوفِ، وَأَنَّهَا مُؤَكَّدَةُ التَّعَيُّنِ عَلَى الْمُوَاسِي وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا، وَأَيًّا مَا كَانَ فَلَا يَحِلُّ لِلْمُقْرِضِ أَنْ يَأْخُذَ أَجْرًا عَلَى عَمَلِ الْمَعْرُوفِ. فَأَمَّا الَّذِي يَسْتَقْرِضُ مَالًا لِيَتَّجِرَ بِهِ أَوْ لِيُوَسِّعَ تِجَارَتَهُ فَلَيْسَ مَظِنَّةَ الْحَاجَةِ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ اسْتِحْقَاقِ مُوَاسَاةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلِذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَى الْغَنِيِّ إِقْرَاضُهُ بِحَال فَإِذا قرضه فَقَدْ تَطَوَّعَ بِمَعْرُوفٍ. وَكَفَى بِهَذَا تَفْرِقَةً بَيْنَ الْحَالَيْنِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْفَخْرُ لِحِكْمَةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا أَسْبَابًا أَرْبَعَةً:

أَوَّلُهَا أَنَّ فِيهِ أَخذ مَال الْغَيْر بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَأُورِدَ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْعِ، وَهُوَ فَرْقٌ غَيْرُ وَجِيهٍ.