كَحَرَكَةِ الْمَاشِي وَالْقَاتِلِ، ورعيا لحقّية التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْعِبَادِ لِئَلَّا يَكُونَ التَّكْلِيفُ عَبَثًا، وَلِحَقِّيَّةِ الْوَعْدِ والوعيد لئلّا يكون بَاطِلًا، تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ لِلْعَبْدِ حَالَةٌ تُمَكِّنُهِ مِنْ فِعْلِ مَا يُرِيدُ فِعْلَهُ، وَتَرْكِ مَا يُرِيدُ تَرْكَهُ، وَهِيَ مَيْلُهُ إِلَى الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ، فَهَذِهِ الْحَالَةُ سَمَّاهَا الْأَشْعَرِيُّ الِاسْتِطَاعَةَ، وَسَمَّاهَا كَسْبًا.
وَقَالَ: إِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ فَإِذَا تَعَلَّقَتْ بِهِ خَلَقَ اللَّهُ الْفِعْلَ الَّذِي مَالَ إِلَيْهِ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي اسْتَحْضَرَهَا وَمَالَ إِلَيْهَا.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ فِي الْآيَةِ: لِقَصْدِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ لَا يَلْحَقُ غَيْرَهَا شَيْءٌ وَلَا يَلْحَقُهَا شَيْءٌ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهَا، وَكَأَنَّ هَذَا إِبْطَالٌ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: مِنِ اعْتِقَادِ شَفَاعَةِ الْآلِهَةِ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ.
وَتَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ رَأَى أَنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَقْبَلُ النِّيَابَةَ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، إِلَّا إِذَا كَانَ لِلْفَاعِلِ أَثَرٌ فِي عَمَلِ غَيْرِهِ
فَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ
ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ وَعِلْمٍ بَثَّهُ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ»
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» .
رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الدُّعَاءُ مَحْكِيًّا مِنْ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ: الَّذِينَ قَالُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا [الْبَقَرَة: ٢٨٥] ، بِأَنِ اتَّبَعُوا الْقَبُولَ وَالرِّضَا، فَتَوَجَّهُوا إِلَى طَلَبِ الْجَزَاءِ وَمُنَاجَاةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَاخْتِيَارُ حِكَايَةِ هَذَا عَنْهُمْ فِي آخِرِ السُّورَةِ تَكْمِلَةٌ لِلْإِيذَانِ بِانْتِهَائِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَلْقِينًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ: بِأَنْ يَقُولُوا هَذَا الدُّعَاءَ، مِثْلَ مَا لُقِّنُوا التَّحْمِيدَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ فَيَكُونُ