وَفِيهِ التَّنْبِيه على محسّن الْمُطَابَقَةِ كَقَوْلِهِ: فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ
[الْحَج: ٤] .
وَالتَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ تَمْثِيلٍ كَقَوْلِه تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها (١) لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: ٤٣] وَقَوْلِهِ: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [إِبْرَاهِيم: ٢٥] .
وَلِذَا فَنَحْنُ نُحَاوِلُ تَفْصِيلَ شَيْءٍ مِمَّا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُنَا مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ:
نَرَى مِنْ أَفَانِينِ الْكَلَامِ الِالْتِفَاتَ وَهُوَ نَقْلُ الْكَلَامِ مِنْ أَحَدِ طُرُقِ التَّكَلُّمِ أَوِ الْخِطَابِ أَوِ الْغَيْبَةِ إِلَى طَرِيقٍ آخَرَ مِنْهَا، وَهُوَ بِمُجَرَّدِهِ مَعْدُودٌ مِنَ الْفَصَاحَةِ، وَسَمَّاهُ ابْنُ جِنِّي شَجَاعَةَ الْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّغْيِيرَ يُجَدِّدُ نَشَاطَ السَّامِعِ فَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ اعْتِبَارٌ لَطِيفٌ يُنَاسِبُ الِانْتِقَالَ إِلَى مَا انْتُقِلَ إِلَيْهِ صَارَ مِنْ أَفَانِينِ الْبَلَاغَةِ وَكَانَ مَعْدُودًا عِنْدَ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ مِنَ النَّفَائِسِ، وَقَدْ جَاءَ مِنْهُ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً مَعَ دِقَّةِ الْمُنَاسَبَةِ فِي الِانْتِقَالِ.
وَكَانَ لِلتَّشْبِيهِ وَالِاسْتِعَارَةِ عِنْدَ الْقَوْمِ الْمَكَانُ الْقَصِيُّ وَالْقَدْرُ الْعَلِيُّ فِي بَابِ الْبَلَاغَةِ، وَبِهِ فَاقَ امْرُؤُ الْقَيْسِ وَنَبَهَتْ سُمْعَتُهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ التَّشْبِيهِ وَالِاسْتِعَارَةِ مَا أَعْجَزَ الْعَرَبَ كَقَوْلِهِ: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مَرْيَم: ٤] وَقَوْلِهِ: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ [الْإِسْرَاء: ٢٤] وَقَوْلِهِ: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: ٣٧] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ابْلَعِي ماءَكِ [هود: ٤٤] وَقَوْلِهِ: صِبْغَةَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ١٣٨] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْبَدِيعِ.
وَرَأَيْتُ مِنْ مَحَاسِنِ التَّشْبِيهِ عِنْدَهُمْ كَمَالَ الشَّبَهِ، وَرَأَيْتُ وَسِيلَةَ ذَلِكَ الِاحْتِرَاسَ وَأَحْسَنُهُ مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [مُحَمَّد: ١٥] احْتِرَاسٌ عَنْ كَرَاهَةِ الطَّعَامِ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [مُحَمَّد: ١٥] احْتِرَاسٌ عَنْ أَنْ تَتَخَلَّلَهُ أَقْذَاءٌ مِنْ بَقَايَا نَحْلِهِ.
وَانْظُرِ التَّمْثِيلِيَّةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الْبَقَرَة: ٢٦٦] الْآيَةَ فَفِيهِ إِتْمَامُ جِهَاتِ كَمَالِ تَحْسِينِ التَّشْبِيهِ لِإِظْهَارِ أَنَّ الْحَسْرَةَ عَلَى تَلَفِهَا أَشَدُّ. وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ- إِلَى قَوْلِهِ- يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ [النُّور: ٣٥] فَقَدْ ذَكَرَ مِنَ الصِّفَاتِ، وَالْأَحْوَالِ مَا فِيهِ مَزِيدُ وُضُوحِ الْمَقْصُودِ مِنْ شِدَّةِ الضِّيَاءِ، وَمَا فِيهِ تَحْسِينُ الْمُشَبَّهِ وَتَزْيِينُهُ بِتَحْسِينِ شِبْهِهِ، وَأَيْنَ مِنَ الْآيَتَيْنِ قَوْلُ كَعْبٍ:
شُجَّتْ بِذِي شَبَمٍ مِنْ مَاءِ مَحْنِيَةٍ ... صَافٍ بِأَبْطَحَ أَضْحَى وَهُوَ مَشْمُولُ
تَنْفِي الرِّيَاحُ الْقَذَى عَنْهُ وَأَفْرَطَهُ ... مِنْ صَوْبِ سَارِيَةٍ بِيضٌ يَعَالِيلُُ
(١) فِي المطبوعة: وَيضْرب الله الْأَمْثَال ... وَهُوَ خطأ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute