نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ أَهَمَّ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ نُزُولِ الْقُرْآنِ. وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي الْمُقَدَّمَةِ الْأُولَى مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» ، هُنَا وَفِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، أَنْ قَالَ:
إِنَّ نَزَّلَ يَدُلُّ عَلَى التَّنْجِيمِ وَإِنَّ أَنْزَلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَيْنِ أُنْزِلَا جُمْلَةً وَاحِدَةً وَهَذَا لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِمَعْنَى التَّقْوِيَةِ الْمُدَّعَى لِلْفِعْلِ الْمُضَاعَفِ، إِلَّا أَنْ يَعْنِيَ أَنَّ نَزَّلَ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ التَّكْثِيرِ، وَهُوَ التَّوْزِيعُ وَرَدَّهُ أَبُو حَيَّانَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: ٣٢] فَجَمَعَ بَيْنَ التَّضْعِيفِ وَقَوْلِهِ: جُمْلَةً واحِدَةً. وَأَزِيدُ أَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ نَزَلَا مُفَرَّقَيْنَ كَشَأْنِ كُلِّ مَا يَنْزِلُ عَلَى الرُّسُلِ فِي مُدَّةِ الرِّسَالَةِ، وَهُوَ الْحَقُّ: إِذْ لَا يُعْرَفُ أَنَّ كِتَابًا نَزَلَ عَلَى رَسُولٍ دُفْعَةً وَاحِدَةً. وَالْكِتَابُ: الْقُرْآنُ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ:
بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، وَمَعْنَى مُلَابَسَتِهِ لِلْحَقِّ اشْتِمَالُهُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَانِي قَالَ تَعَالَى: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ [الْإِسْرَاء: ١٠٥] .
وَمَعْنَى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِلْكُتُبِ السَّابِقَةِ لَهُ، وَجُعِلَ السَّابِقُ بَيْنَ يَدَيْهِ: لِأَنَّهُ يَجِيءُ قَبْلَهُ، فَكَأَنَّهُ يَمْشِي أَمَامَهُ.
والتوراة اسْمٌ لِلْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ أَصْلُهُ طُورَا بِمَعْنَى الْهُدَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْمٌ لِلْأَلْوَاحِ الَّتِي فِيهَا الْكَلِمَاتُ الْعَشْرُ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي جَبَلِ الطُّورِ لِأَنَّهَا أَصْلُ الشَّرِيعَةِ الَّتِي جَاءَتْ فِي كتب مُوسَى، فأطق ذَلِكَ
الِاسْمُ عَلَى جَمِيعِ كُتُبِ مُوسَى، وَالْيَهُودُ يَقُولُونَ (سِفْرُ طُورا) فَلَمَّا دَخَلَ هَذَا الِاسْمُ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ أَدْخَلُوا عَلَيْهِ لَامَ التَّعْرِيفِ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى الْأَوْصَافِ وَالنَّكِرَاتِ لِتَصِيرَ أَعْلَامًا بِالْغَلَبَةِ: مِثْلُ الْعَقَبَةِ، وَمِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ مَنْ حَاوَلُوا تَوْجِيهًا لِاشْتِقَاقِهِ اشْتِقَاقًا عَرَبيا، فَقَالُوا: إنّ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَرْيِ وَهُوَ الْوَقْدُ، بِوَزْنِ تِفْعَلَةٍ أَوْ فَوْعَلَةٍ، وَرُبَّمَا أَقْدَمَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا دُخُولُ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يَدْخُلُ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْعَجَمِيَّةِ، وَأُجِيبَ بِأَنْ لَا مَانِعَ مِنْ دُخُولِهَا عَلَى الْمُعَرَّبِ كَمَا قَالُوا: الْإِسْكَنْدَرِيَّةُ، وَهَذَا جَوَابٌ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ وَزْنٌ عَرَبِيٌّ إِذْ هُوَ نُسِبَ إِلَى إِسْكَنْدَرٍ، فَالْوَجْهُ فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ إِنَّمَا أُلْزِمَ التَّعْرِيفَ لِأَنَّهُ مُعَرَّبٌ عَنِ اسْمٍ بِمَعْنَى الْوَصْفِ اسْمِ عَلَمٍ فَلَمَّا عَرَّبُوهُ أَلْزَمُوهُ اللَّامَ لِذَلِكَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute