للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ: إِلَى أنّ الْآيَات الْقُرْآنِ صِنْفَانِ: مُحْكَمَاتٌ وَأَضْدَادُهَا، الَّتِي سُمِّيَتْ مُتَشَابِهَاتٍ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمُحْكَمَاتِ هِيَ أُمُّ الْكِتَابِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُتَشَابِهَاتِ هِيَ أَضْدَادُ الْمُحْكَمَاتِ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بُقُولِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمرَان: ٧] أَيْ تَأْوِيلِهِ الَّذِي لَا قِبَلَ لِأَمْثَالِهِمْ بِهِ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُتَشَابِهَاتِ هِيَ الَّتِي لَمْ يَتَّضِحِ الْمَقْصُودُ مِنْ مَعَانِيهَا، فَعَلِمْنَا أَنَّ صِفَةَ الْمُحْكَمَاتِ، وَالْمُتَشَابِهَاتِ، رَاجِعَةٌ إِلَى أَلْفَاظِ الْآيَاتِ.

وَوَصَفَ الْمُحْكَمَاتِ بِأَنَّهَا أُمُّ الْكِتَابِ فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأُمِّ الْأَصْلَ، أَوِ الْمَرْجِعَ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ: أَيْ هُنَّ أَصْلُ الْقُرْآنِ أَوْ مَرْجِعُهُ، وَلَيْسَ يُنَاسِبُ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ إِلَّا دَلَالَةُ الْقُرْآنِ إِذِ الْقُرْآنُ أُنْزِلَ لِلْإِرْشَادِ وَالْهُدَى، فَالْمُحْكَمَاتُ هِيَ أُصُولُ الِاعْتِقَادِ وَالتَّشْرِيعِ وَالْآدَابِ وَالْمَوَاعِظِ، وَكَانَتْ أُصُولًا لِذَلِكَ: بِاتِّضَاحِ دَلَالَتِهَا، بِحَيْثُ تَدُلُّ عَلَى

مَعَانٍ لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَهَا أَوْ تَحْتَمِلُهُ احْتِمَالًا ضَعِيفًا غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورة: ١١]- لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الْأَنْبِيَاء: ٢٣]- يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [الْبَقَرَة: ١٨٥]- وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ [الْبَقَرَة: ٢٠٥]- وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات: ٤٠] . وَبِاتِّضَاحِ مَعَانِيهَا بِحَيْثُ تَتَنَاوَلُهَا أَفْهَامُ مُعْظَمِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا وَتَتَأَهَّلُ لِفَهْمِهَا فَهِيَ أَصْلُ الْقُرْآنِ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ فِي حَمْلِ مَعَانِي غَيْرِهَا عَلَيْهَا لِلْبَيَانِ أَوِ التَّفْرِيعِ.

وَالْمُتَشَابِهَاتُ مُقَابِلُ الْمُحْكَمَاتِ، فَهِيَ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى مَعَانٍ تَشَابَهَتْ فِي أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا هُوَ الْمُرَادَ. وَمَعْنَى تَشَابُهِهَا: أَنَّهَا تَشَابَهَتْ فِي صِحَّةِ الْقَصْدِ إِلَيْهَا، أَيْ لَمْ يَكُنْ بَعْضُهَا أَرْجَحَ مِنْ بَعْضٍ. أَوْ يَكُونُ مَعْنَاهَا صَادِقًا بِصُوَرٍ كَثِيرَةٍ مُتَنَاقِضَةٍ أَوْ غَيْرِ مُنَاسِبَةٍ لِأَنْ تَكُونَ مُرَادًا، فَلَا يَتَبَيَّنُ الْغَرَضُ مِنْهَا، فَهَذَا وَجْهُ تَفْسِيرِ الْآيَةِ فِيمَا أَرَى.

وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي تَعْيِينِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْمُحْكَمَاتِ وَالْمُتَشَابِهَاتِ عَلَى أَقْوَالٍ: مَرْجِعُهَا إِلَى تَعْيِينِ مِقْدَارِ الْوُضُوحِ وَالْخَفَاءِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ كَتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ، وَذَلِكَ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ مِنْ أَوَاخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٥١] : قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ وَالْآيَاتُ مِنْ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٢٣] : وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، وَأَنَّ الْمُتَشَابِهَ الْمُجْمَلَاتُ الَّتِي لَمْ تُبَيَّنْ كَحُرُوفِ أَوَائِلِ السُّورِ.