للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عَلَى أَنَّ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ أَمْرَيْنِ آخَرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا كَوْنُهُ شَرِيعَةً دَائِمَةً، وَذَلِكَ يَقْتَضِي فَتْحَ أَبْوَابِ عِبَارَاتِهِ لِمُخْتَلِفِ اسْتِنْبَاطِ الْمُسْتَنْبِطِينَ، حَتَّى تُؤْخَذَ مِنْهُ أَحْكَامُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، وَثَانِيهِمَا تَعْوِيدُ حَمَلَةِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَعُلَمَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، بِالتَّنْقِيبِ، وَالْبَحْثِ، وَاسْتِخْرَاجِ الْمَقَاصِدِ مِنْ عَوِيصَاتِ الْأَدِلَّةِ، حَتَّى تَكُونَ طَبَقَاتُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ صَالِحَةً- فِي كُلِّ زَمَانٍ- لِفَهْمِ تَشْرِيعِ الشَّارِعِ وَمَقْصِدِهِ مِنَ التَّشْرِيعِ، فَيَكُونُوا قَادِرِينَ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ التَّشْرِيعِيَّةِ، وَلَوْ صِيغَ لَهُمُ التَّشْرِيعُ فِي أُسْلُوبٍ سَهْلِ التَّنَاوُلِ لَاعْتَادُوا الْعُكُوفَ عَلَى مَا بَيْنَ أَنْظَارِهِمْ فِي الْمُطَالَعَةِ الْوَاحِدَةِ. مِنْ أَجْلِ هَذَا كَانَتْ صَلُوحِيَّةُ عِبَارَاتِهِ لِاخْتِلَافِ مَنَازِعِ الْمُجْتَهِدِينَ، قَائِمَةً مَقَامَ تَلَاحُقِ الْمُؤَلِّفِينَ فِي تَدْوِينِ كُتُبِ الْعُلُومِ، تَبَعًا لِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِ الْعُصُورِ.

فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا عَلِمْتَ أَصْلَ السَّبَبِ فِي وُجُودِ مَا يُسَمَّى بِالْمُتَشَابِهِ فِي الْقُرْآنِ. وَبَقِيَ أَنْ نَذْكُرَ لَكَ مَرَاتِبَ التَّشَابُهِ وَتَفَاوُتَ أَسْبَابِهَا. وَأَنَّهَا فِيمَا انْتَهَى إِلَيْهِ اسْتِقْرَاؤُنَا الْآنَ عَشْرُ مَرَاتِبَ:

أُولَاهَا: مَعَانٍ قُصِدَ إِيدَاعُهَا فِي الْقُرْآنِ، وَقُصِدَ إِجْمَالُهَا: إِمَّا لِعَدَمِ قَابِلِيَّةِ الْبَشَرِ لِفَهْمِهَا، وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ، إِنْ قُلْنَا بِوُجُودِ الْمُجْمَلِ، الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَنَحْنُ لَا نَخْتَارُهُ. وَإِمَّا لِعَدَمِ قَابِلِيَّتِهِمْ لِكُنْهِ فَهْمِهَا، فَأُلْقِيَتْ إِلَيْهِمْ عَلَى وَجْهِ الْجُمْلَةِ أَوْ لِعَدَمِ

قَابِلِيَّةِ بَعْضِهِمْ فِي عَصْرٍ، أَوْ جِهَةٍ، لِفَهْمِهَا بِالْكُنْهِ وَمِنْ هَذَا أَحْوَالُ الْقِيَامَة، وَبَعض شؤون الرُّبُوبِيَّةِ كَالْإِتْيَانِ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَالرُّؤْيَةِ، وَالْكَلَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَثَانِيَتُهَا: مَعَانٍ قُصِدَ إِشْعَارُ الْمُسْلِمِينَ بِهَا، وَتَعَيَّنَ إِجْمَالُهَا، مَعَ إِمْكَانِ حَمْلِهَا عَلَى مَعَانٍ مَعْلُومَةٍ لَكِنْ بِتَأْوِيلَاتٍ: كَحُرُوفِ أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَنَحْوِ الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥] ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [الْبَقَرَة: ٢٩] (١) .

ثَالِثَتُهَا: مَعَانٍ عَالِيَةٌ ضَاقَتْ عَنْ إِيفَاءِ كُنْهِهَا اللُّغَةُ الْمَوْضُوعَةُ لِأَقْصَى مَا هُوَ مُتَعَارَفُ أَهْلِهَا، فَعُبِّرَ عَنْ تِلْكَ الْمَعَانِي بِأَقْصَى مَا يُقَرِّبُ مَعَانِيَهَا إِلَى الْأَفْهَامِ، وَهَذَا مِثْلُ أَكْثَرِ صِفَاتِ الله نَحْو الرحمان، الرؤوف، المتكبّر، نور السَّمَوَات وَالْأَرْضِ.


(١) لَعَلَّ لفعل اسْتَوَى خُصُوصِيَّة فِي اللُّغَة أدْركهَا أهل اللِّسَان يَوْمئِذٍ كَانَ بهَا أَجْدَر بِالدّلَالَةِ على معنى تمكن الْخَالِق من مخلوقه وَلذَلِك اختير فِي الْآيَتَيْنِ دون فعل غلب أَو تمكن.