بِمَا لَا أَعْلَمُ» . وَجَاءَ فِي زَمَنِ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- رَجُلٌ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنَ الْبَصْرَةِ، يُقَالُ لَهُ صَبِيغُ بْنُ شَرِيكٍ أَوِ ابْنُ عَسَلٍ التَّمِيمِيُّ (١) فَجَعَلَ يَسْأَلُ النَّاسَ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ، وَعَنْ أَشْيَاءَ فَأَحْضَرَهُ عُمَرُ، وَضَرَبَهُ ضَرْبًا مُوجِعًا، وَكَرَّرَ ذَلِكَ أَيَّامًا، فَقَالَ: «حَسْبُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ ذَهَبَ مَا كُنْتُ أَجِدُ فِي رَأْسِي» ثُمَّ أَرْجَعَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنْ يَمْنَعَ النَّاسَ مِنْ مُخَالَطَتِهِ. وَمِنَ السَّلَفِ مَنْ تَأَوَّلَ عِنْدَ عُرُوضِ الشُّبْهَةِ لِبَعْضِ النَّاسِ، كَمَا فَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَوَاصِمِ مِنَ الْقَوَاصِمِ» - «مِنَ الْكَائِدِينَ لِلْإِسْلَامِ الْبَاطِنِيَّةُ وَالظَّاهِرِيَّةُ» . قُلْتُ: أَمَّا الْبَاطِنِيَّةُ فَقَدْ جَعَلُوا مُعْظَمَ الْقُرْآنِ مُتَشَابِهًا، وَتَأَوَّلُوهُ بِحَسَبِ أَهْوَائِهِمْ، وَأَمَّا الظَّاهِرِيُّونَ فَقَدْ أَكْثَرُوا فِي مُتَشَابِهِهِ، وَاعْتَقَدُوا سَبَبَ التَّشَابُهِ وَاقِعًا، فَالْأَوَّلُونَ دَخَلُوا فِي قَوْلِهِ: وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، وَالْأَخِيرُونَ خَرَجُوا مِنْ قَوْلِهِ: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أَوْ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، فَخَالَفُوا الْخَلَفَ وَالسَّلَفَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ- «فِي الْعَوَاصِمِ» - «وَأَصْلُ الظَّاهِرِيِّينَ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ قَالُوا: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ» يَعْنِي أَنَّهُمْ أَخَذُوا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ وَلَمْ يَتَأَوَّلُوهُ بِمَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْحُكْمِ.
وَالْمُرَادُ بِالرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ: الَّذِينَ تَمَكَّنُوا فِي عِلْمِ الْكِتَابِ، وَمَعْرِفَةِ مَحَامِلِهِ، وَقَامَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ مَا أَرْشَدَهُمْ إِلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، بِحَيْثُ لَا تَرُوجُ عَلَيْهِمُ الشُّبَهُ. وَالرُّسُوخُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الثَّبَاتُ وَالتَّمَكُّنُ فِي الْمَكَانِ، يُقَالُ: رَسَخَتِ الْقَدَمُ تَرْسَخُ رُسُوخًا إِذَا ثَبَتَتْ عِنْدَ الْمَشْيِ وَلَمْ تَتَزَلْزَلْ، وَاسْتُعِيرَ الرُّسُوخُ لِكَمَالِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ بِحَيْثُ لَا تُضَلِّلُهُ الشُّبَهُ، وَلَا تَتَطَرَّقُهُ الْأَخْطَاءُ غَالِبًا، وَشَاعَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ حَتَّى صَارَتْ كَالْحَقِيقَةِ. فَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ: الثَّابِتُونَ فِيهِ الْعَارِفُونَ بِدَقَائِقِهِ، فَهُمْ يُحْسِنُونَ مَوَاقِعَ التَّأْوِيلِ، وَيَعْلَمُونَهُ.
وَلِذَا فَقَوْلُهُ: وَالرَّاسِخُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَفِي هَذَا الْعَطْفِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ: كَقَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ [آل عمرَان: ١٨] وَإِلَى هَذَا التَّفْسِيرِ مَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
وَالشَّافِعِيَّةُ، وَابْنُ فَوْرَكٍ، وَالشَّيْخُ أَحْمَدُ الْقُرْطُبِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ اسْتَأْثَرَ
(١) صبيغ بصاد مُهْملَة وباء مُوَحدَة وتحتية وغين مُعْجمَة بِوَزْن أَمِير- وَعسل- بِعَين مُهْملَة مَكْسُورَة وسين مُهْملَة سَاكِنة.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute