وَأَمَّا الِاخْتِيَارِيُّ فَهُوَ مَا أَبْقَاهُ ذَلِكَ التَّمَازُجُ مِنْ مُشَاهَدَةِ أَخْلَاقٍ وَعَوَائِدَ، حَسُنَتْ فِي أَعْيُنِ رَائِيهَا، فَاقْتَبَسُوهَا، وَأَشْيَاءَ قَبُحَتْ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَحَذِرُوهَا، وَفِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ نَشَأَتْ يَقَظَةٌ جَدِيدَةٌ، وَتَأَسَّسَتْ مَدَنِيَّاتٌ مُتَفَنِّنَةٌ، وَتَهَيَّأَتِ الْأَفْكَارُ إِلَى قَبُولِ التَّغْيِيرَاتِ الْقَوِيَّةِ، فَتَهَيَّأَتْ جَمِيعُ الْأُمَمِ إِلَى قَبُولِ التَّعَالِيمِ الْغَرِيبَةِ عَنْ عَوَائِدِهَا وَأَحْوَالِهَا، وَتَسَاوَتِ الْأُمَمُ وَتَقَارَبَتْ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ فِي الْحَضَارَةِ وَالْعُلُومِ تَفَاوُتًا رُبَّمَا كَانَ مِنْهُ مَا زَاد بَعْضهَا تهيّئوا لِقَبُولِ التَّعَالِيمِ الصَّحِيحَةِ، وَقَهْقَرَ بَعْضًا عَنْ ذَلِكَ بِمَا دَاخَلَهَا مِنَ الْإِعْجَابِ بِمَبْلَغِ عِلْمِهَا، أَوِ الْعُكُوفِ وَالْإِلْفِ عَلَى حَضَارَتِهَا.
فَبَلَغَ الْأَجَلُ الْمُرَادُ وَالْمُعَيَّنُ لِمَجِيءِ الشَّرِيعَةِ الْحَقِّ الْخَاتِمَةِ الْعَامَّةِ.
فَأَظْهَرَ اللَّهُ دِينَ الْإِسْلَامِ فِي وَقْتٍ مُنَاسِبٍ لِظُهُورِهِ، وَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ ظُهُورُهُ بَيْن ظَهْرَانَيْ أُمَّةٍ لَمْ تَسْبِقْ لَهَا سَابِقَةُ سُلْطَانٍ، وَلَا كَانَتْ ذَاتَ سِيَادَةٍ يَوْمَئِذٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ جِهَاتِ الْأَرْضِ، وَلَكِنَّهَا أُمَّةٌ سَلَّمَهَا اللَّهُ مِنْ مُعْظَمِ رُعُونَاتِ الْجَمَاعَاتِ الْبَشَرِيَّةِ، لِتَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى قَبُولِ الْحَقِّ، وَأَظْهَرَ هَذَا الدِّينَ بِوَاسِطَةِ رَجُلٍ مِنْهَا، لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَلَا مِنْ أَهْلِ الدَّوْلَةِ، وَلَا مِنْ ذُرِّيَّةِ مُلُوكٍ، وَلَا اكْتَسَبَ خِبْرَةً سَابِقَةً بِهِجْرَةٍ أَوْ مُخَالَطَةٍ، لِيَكُونَ ظُهُور هَذَا تَحت الصَّرِيحِ، وَالْعِلْمِ الصَّحِيحِ، مِنْ مِثْلِهِ آيَةً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ نَفَحَ بِهِ عِبَادَهُ.
ثُمَّ جَعَلَ أُسُسَ هَذَا الدِّينِ مُتَبَاعِدَةً عَنْ ذَمِيمِ الْعَوَائِدِ فِي الْأُمَمِ، حَتَّى الْأُمَّةِ الَّتِي ظَهَرَ بَيْنَهَا، وَمُوَافِقَةً لِلْحَقِّ وَلَوْ كَانَ قَدْ سَبَقَ إِلَيْهِ أَعْدَاؤُهَا، وَكَانَتْ أُصُولُهُ مَبْنِيَّةً عَلَى الْفِطْرَةِ بِمَعْنَى أَلَّا تَكُونَ نَاظِرَةً إِلَّا إِلَى مَا فِيهِ الصَّلَاحُ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ السَّلِيمِ، غَيْرَ مَأْسُورٍ لِلْعَوَائِدِ وَلَا لِلْمَذَاهِبِ، قَالَ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الرّوم: ٣٠] ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ ابْنُ سِينَا: «الْفِطْرَةُ أَنْ يَتَوَهَّمَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ حَصَلَ فِي الدُّنْيَا دَفْعَةً وَهُوَ عَاقِلٌ، لَمْ يَسْمَعْ
رَأْيًا، وَلَمْ يَعْتَقِدْ مَذْهَبًا، وَلَمْ يُعَاشِرْ أُمَّةً، لَكِنَّهُ شَاهَدَ الْمَحْسُوسَاتِ، ثُمَّ يَعْرِضُ عَلَى ذِهْنِهِ الْأَشْيَاءَ شَيْئًا فَشَيْئًا فَإِنْ أَمْكَنَهُ الشَّكُّ فِي شَيْءٍ فَالْفِطْرَةُ لَا تَشْهَدُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الشَّكُّ فِيهِ فَالْفِطْرَةُ تُوجِبُهُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا تُوجِبُهُ الْفِطْرَةُ بِصَادِقٍ، بَلِ الصَّادِقُ مِنْهُ مَا تَشْهَدُ بِهِ فِطْرَةُ الْقُوَّةِ الَّتِي تُسَمَّى عَقْلًا، قَبْلَ أَنْ يَعْتَرِضَهُ الْوَهْمُ» .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute