للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حَاصِلَ كَلَامِهِمْ، وَلِلْعَرَبِ فِي حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ اتِّسَاعٌ مَدَارُهُ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِالْمَعْنَى دُونَ الْتِزَامِ الْأَلْفَاظِ، فَالْإِعْجَازُ الثَّابِتُ لِلْأَقْوَالِ الْمَحْكِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ هُوَ إِعْجَازٌ لِلْقُرْآنِ لَا لِلْأَقْوَالِ الْمَحْكِيَّةِ.

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ حِكَايَةُ الْأَسْمَاءِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقِصَصِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ يُغَيِّرُهَا إِلَى مَا يُنَاسِبُ حُسْنَ مَوَاقِعِهَا فِي الْكَلَامِ مِنَ الْفَصَاحَةِ مِثْلَ تَغْيِيرِ شَاوِلَ إِلَى طَالُوتَ، وَتَغْيِيرِ اسْمِ تَارَحَ أَبِي إِبْرَاهِيمَ إِلَى آزَرَ.

وَكَذَلِكَ التَّمْثِيلُ فَقَدْ كَانَ فِي أَدَبِ الْعَرَبِ الْأَمْثَالُ وَهِيَ حِكَايَةُ أَحْوَالٍ مَرْمُوزٍ لَهَا بِتِلْكَ الْجُمَلِ الْبَلِيغَةِ الَّتِي قِيلَتْ فِيهَا أَوْ قِيلَتْ لَهَا الْمُسَمَّاةِ بِالْأَمْثَالِ، فَكَانَتْ تِلْكَ الْجُمَلُ مُشِيرَةً إِلَى تِلْكَ الْأَحْوَالِ، إِلَّا أَنَّهَا لَمَّا تَدَاوَلَتْهَا الْأَلْسُنُ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَطَالَ عَلَيْهَا الْأَمَدُ نُسِيَتِ الْأَحْوَالُ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهَا وَلَمْ يَبْقَ لِلْأَذْهَانِ عِنْدَ النُّطْقِ بِهَا إِلَّا الشُّعُورُ بِمَغَازِيهَا الَّتِي تُقَالُ لِأَجْلِهَا.

أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَدْ أَوْضَحَ الْأَمْثَالَ وَأَبْدَعَ تَرْكِيبَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ [إِبْرَاهِيم: ١٨] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ [الْحَج: ٣١] وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ إِلَى قَوْلِهِ: فَما لَهُ مِنْ

نُورٍ

[النُّور: ٣٩] وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ [الرَّعْد: ١٤] .

لَمْ يَلْتَزِمِ الْقُرْآنُ أُسْلُوبًا وَاحِدًا، وَاخْتَلَفَتْ سُوَرُهُ وَتَفَنَّنَتْ، فَتَكَادُ تَكُونُ لِكُلِّ سُورَةٍ لَهْجَةٌ خَاصَّةٌ، فَإِنَّ بَعْضَهَا بُنِيَ عَلَى فَوَاصِلَ وَبَعْضَهَا لَيْسَ كَذَلِكَ. وَكَذَلِكَ فَوَاتِحُهَا مِنْهَا مَا افْتُتِحَ بِالِاحْتِفَالِ كَالْحَمْدِ، وَيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَة: ١٠٤] ، والم ذلِكَ الْكِتابُ [الْبَقَرَة: ١، ٢] ، وَهِيَ قَرِيبٌ مِمَّا نُعَبِّرُ عَنْهُ فِي صِنَاعَةِ الْإِنْشَاءِ بِالْمُقَدِّمَاتِ. وَمِنْهَا مَا افْتُتِحَ بِالْهُجُومِ عَلَى الْغَرَضِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ نَحْوَ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [مُحَمَّد: ١] وبَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [التَّوْبَة: ١] .

وَمِنْ أَبْدَعِ الْأَسَالِيبِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْإِيجَازُ وَهُوَ مُتَنَافَسُهُمْ وَغَايَةٌ تَتَبَارَى إِلَيْهَا فُصَحَاؤُهُمْ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِأَبْدَعِهِ إِذْ كَانَ- مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِيجَازِ الْمُبَيَّنِ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي- فِيهِ إِيجَازٌ عَظِيمٌ آخَرُ وَهُوَ صَلُوحِيَّةُ مُعْظَمِ آيَاتِهِ لِأَنْ تُؤْخَذَ مِنْهَا مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ كُلُّهَا تَصْلُحُ لَهَا الْعِبَارَةُ بِاحْتِمَالَاتٍ لَا يُنَافِيهَا اللَّفْظُ، فَبَعْضُ تِلْكَ الِاحْتِمَالَاتِ مِمَّا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُ، وَبَعْضُهَا إِن كَانَ فَرْضٌ وَاحِدٌ مِنْهُ يَمْنَعُ مِنْ فَرْضٍ آخَرَ فَتَحْرِيكُ الْأَذْهَانِ إِلَيْهِ وَإِخْطَارُهُ بِهَا يَكْفِي فِي حُصُولِ الْمَقْصِدِ مِنَ التَّذْكِيرِ بِهِ لِلِامْتِثَالِ أَوِ الِانْتِهَاءِ. وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى هَذَا فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ.