للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

جُعِلَتْ مَقَالَتُهُمْ مُقْتَضِيَةً أَنَّ عِيسَى أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا عِبَادًا لَهُ دُونِ اللَّهِ، وَالْمعْنَى أنّ لآمر بِأَنْ يَكُونَ النَّاسُ عِبَادًا لَهُ هُوَ آمِرٌ بِانْصِرَافِهِمْ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ. وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ أَيْ وَلَكِنْ يَقُول كونُوا ربانيين أَي كُونُوا مَنْسُوبِينَ لِلرَّبِّ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّ النَّسَبَ إِلَى الشَّيْءِ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَزِيدِ اخْتِصَاصِ الْمَنْسُوبِ بِالْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ.

وَمعنى ذَلِك أَنْ يَكُونُوا مُخْلِصِينَ لِلَّهِ دُونَ غَيْرِهِ.

وَالرَّبَّانِيُّ نِسْبَةٌ إِلَى الرَّبِّ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ كَمَا يُقَالُ اللِّحْيَانِيُّ لِعَظِيمِ اللِّحْيَةِ، وَالشَّعْرَانِيُّ لِكَثِيرِ الشَّعْرِ.

وَقَوْلُهُ: بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ أَيْ لِأَنَّ عِلْمَكُمُ الْكِتَابَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَنْ إِشْرَاكِ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ فَائِدَةَ الْعِلْمِ الْعَمَلُ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِمَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ- بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ اللَّامِ- مُضَارِعُ علم. وقرأه ابْن عَامِرٌ، وَحَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: بِضَمٍّ فَفَتْحٍ فَلَامٍ مُشَدَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ مُضَارِعُ عَلَّمَ الْمُضَاعَفِ.

وتَدْرُسُونَ مَعْنَاهُ تَقْرَءُونَ أَيْ قِرَاءَةً بِإِعَادَةٍ وَتَكْرِيرٍ: لِأَنَّ مَادَّةَ دَرَسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَحُومُ حَوْلَ مَعَانِي التَّأَثُّرِ مِنْ تَكَرُّرِ عَمَلٍ يُعْمَلُ فِي أَمْثَاله، فَمِنْهُ قَوْلهم: دَرَسَتِ الرِّيحُ رَسْمَ الدَّارِ إِذَا عَفَتْهُ وَأَبْلَتْهُ، فَهُوَ دَارِسٌ، يُقَالُ مَنْزِلٌ دَارِسٌ، وَالطَّرِيقُ الدَّارِسُ الْعَافِي الَّذِي لَا يَتَبَيَّنُ. وَثَوْبٌ دَارِسٌ خَلَقٌ، وَقَالُوا: دَرَسَ الْكِتَابَ إِذَا قَرَأَهُ بِتَمَهُّلٍ لِحِفْظِهِ، أَوْ لِلتَّدَبُّرِ،

وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ

إِلَخْ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فَعَطَفَ التَّدَارُسَ عَلَى الْقِرَاءَةِ فَعُلِمَ أَنَّ الدِّرَاسَةَ أَخَصُّ مِنَ الْقِرَاءَةِ. وَسَمَّوْا بَيْتَ قِرَاءَةِ الْيَهُودِ مِدْرَاسًا كَمَا فِي الْحَدِيثِ: إِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ

فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى أَتَى مِدْرَاسَ الْيَهُودِ فَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ وَدَعَاهُمُ إِلَخْ. وَمَادَّةُ دَرَسَ تَسْتَلْزِمُ التَّمَكُّنَ مِنَ الْمَفْعُولِ فَلِذَلِكَ صَارَ دَرْسُ الْكِتَابِ مَجَازًا فِي فَهْمِهِ وَإِتْقَانِهِ وَلِذَلِكَ عَطَفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ عَلَى بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ.