(١٠٣)
انْتَقَلَ مِنْ تَحْذِيرِ الْمُخَاطَبِينَ مِنَ الِانْخِدَاعِ لِوَسَاوِسِ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، إِلَى تَحْرِيضِهِمْ عَلَى تَمَامِ التَّقْوَى، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ زِيَادَةَ صَلَاحٍ لَهُمْ وَرُسُوخًا لِإِيمَانِهِمْ، وَهُوَ خِطَابٌ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْرِي إِلَى جَمِيعِ مَنْ يَكُونُ بَعْدَهُمْ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الْأَخْلَاقِ الْإِسْلَامِيَّةِ. وَالتَّقْوَى تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. وحاصلها امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَاجْتِنَابُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فِي الْأَعْمَالِ الظّاهرة، والنّوايا الْبَاطِنَة. وَحَقُّ التَّقْوَى هُوَ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا تَقْصِيرٌ، وَتَظَاهُرٌ بِمَا لَيْسَ مِنْ عَمَلِهِ، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: ١٦] لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ هِيَ الْقُدْرَة، والتّقوى مقدورة لِلنَّاسِ. وَبِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ تَعَارُضٌ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ، وَلَا نَسْخٌ، وَقِيلَ: هَاتِهِ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ لِأَنَّ هَاتِهِ دَلَّتْ عَلَى تَقْوَى كَامِلَةٍ كَمَا فَسَّرَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَرَوَوْا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ يقوى لهَذَا» فَنزلت قَوْلُهُ تَعَالَى:
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَنَسَخَ هَذِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْآيَتَيْنِ للْوُجُوب، وَعَلَى اخْتِلَافِ الْمُرَادِ مِنَ التَّقَوَيَيْنِ. وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا بَيَانٌ لَا نَسْخٌ، كَمَا حَقَّقَهُ المحقّقون، وَلَكِن شا عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ إِطْلَاقُ النَّسْخِ عَلَى مَا يَشْمَلُ الْبَيَانَ.
وَالتُّقَاةُ اسْمُ مَصْدَرِ. اتَّقَى وَأَصْلُهُ وُقَيَةٌ ثُمَّ وُقَاةٌ ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْوَاوُ تَاءً تَبَعًا لِإِبْدَالِهَا فِي الِافْتِعَالِ إِبْدَالًا قَصَدُوا مِنْهُ الْإِدْغَامَ. كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً [آل عمرَان: ٢٨] .
وَقَوْلُهُ: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ نُهِيَ عَنْ أَنْ يَمُوتُوا عَلَى حَالَةٍ فِي الدِّينِ إِلَّا عَلَى حَالَةِ الْإِسْلَامِ فَمَحَطُّ النَّهْيِ هُوَ الْقَيْدُ: أَعْنِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَحْذُوفَ وَالْمُسْتَثْنَى وَهُوَ جُمْلَةُ الْحَالِ، لِأَنَّهَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحْوَالٍ، وَهَذَا الْمُرَكَّبُ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّهْيِ عَنْ مُفَارَقَةِ الدِّينِ بِالْإِسْلَامِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute