الْخِطَابَاتِ السَّابِقَةِ آنِفًا جَازَ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) بَيَانِيَّةً وَقُدِّمَ الْبَيَانُ عَلَى المبيّن وَيكون مَا صدق الْأُمَّةِ نَفْسُ الصَّحَابَةِ، وَهُمْ أَهْلُ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَلْتَكُونُوا أُمَّةً يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ فَهَذِهِ الْأُمَّةُ أَصْحَابُ هَذَا الْوَصْفِ قَدْ أُمِرُوا بِأَنْ يُكَوِّنُوا مِنْ مَجْمُوعِهِمُ الْأُمَّةَ الْمَوْصُوفَةَ بِأَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ، وَالْمَقْصُودُ تَكْوِينُ هَذَا الْوَصْفِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ هُوَ التَّخَلُّقُ بِهَذَا الْخُلُقِ فَإِذَا تَخَلَّقُوا بِهِ تَكَوَّنَتِ الْأُمَّةُ الْمَطْلُوبَةُ. وَهِيَ أَفْضَلُ الْأُمَمِ. وَهِيَ أَهْلُ الْمَدِينَة الفاضلة المنشود لِلْحُكَمَاءِ مِنْ قَبْلُ، فَجَاءَتِ الْآيَةُ بِهَذَا الْأَمْرِ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ الْبَلِيغِ الْمُوجَزِ.
وَفِي هَذَا مُحَسِّنُ التَّجْرِيدِ: جُرِّدَتْ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ أُمَّةٌ أُخْرَى لِلْمُبَالَغَةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَمَا يُقَالُ: لِفُلَانٍ مِنْ بَنِيهِ أَنْصَارٌ. وَالْمَقْصُودُ: وَلْتَكُونُوا آمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ نَاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى تَكُونُوا أُمَّةً هَذِهِ صِفَتُهَا، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ فَيَكُونُ جَمِيعُ أَصْحَابِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خُوطِبُوا بِأَنْ يَكُونُوا دُعَاةً إِلَى الْخَيْرِ، وَلَا جَرَمَ فَهُمُ الَّذِينَ تَلَقَّوُا الشَّرِيعَةَ مِنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَاشَرَةً، فَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِتَبْلِيغِهَا. وَأَعْلَمُ بِمَشَاهِدِهَا وَأَحْوَالِهَا، وَيَشْهَدُ لهَذَا
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ: «لِيُبَلِّغَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ»
وَإِلَى هَذَا الْمَحْمَلِ مَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَيَجُوزُ أَيْضًا عَلَى اعْتِبَارِ الضَّمِيرِ خِطَابًا لأَصْحَاب محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ تَكُونَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْأُمَّةِ الْجَمَاعَةُ وَالْفَرِيقُ، أَيْ: وَلْيَكُنْ بَعْضُكُمْ فَرِيقًا يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ فَيَكُونُ الْوُجُوبُ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ الضَّحَّاكُ، وَالطَّبَرِيُّ: أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. فَهُمْ خَاصَّةُ أَصْحَابِ الرَّسُولِ وَهُمْ خَاصَّةُ الرُّوَاةِ.
وَأَقُولُ: عَلَى هَذَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْوُجُوبِ عَلَى كُلِّ جِيلٍ بَعْدَهُمْ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ لِئَلَّا يَتَعَطَّلَ الْهُدَى. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الدَّعْوَةَ إِلَى الْخَيْرِ، وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute