أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا لَا تَنْجَلِي إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْمُعْجِزَةُ صَالِحَةً لِجَمِيعِ الْأَزْمَانِ حَتَّى يَكُونَ الَّذِينَ يَهْتَدُونَ لِدِينِهِ لِأَجْلِ مُعْجِزَتِهِ أُمَمًا كَثِيرِينَ عَلَى اخْتِلَافِ قَرَائِحِهِمْ فَيَكُونُ هُوَ أَكْثَرَ الْأَنْبِيَاءِ تَابِعًا لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْنِيَّ بِالتَّابِعِ التَّابِعُ لَهُ فِي حَقَائِقِ الدِّينِ الْحَقِّ لَا اتِّبَاعُ الِادِّعَاءِ وَالِانْتِسَابِ بِالْقَوْلِ، وَلَعَلَّ الرَّجَاءَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى كَوْنِهِ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِهِمْ تَابِعًا أَيْ أَكْثَرَ أَتْبَاعًا مِنْ أَتْبَاعِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ، وَقَدْ أُغْفِلَ بَيَانُ وَجْهِ التَّفْرِيعِ فِي هَذَا اللَّفْظِ النَّبَوِيِّ الْبَلِيغِ.
وَهَذِهِ الْجِهَةُ مِنَ الْإِعْجَازِ إِنَّمَا تَثْبُتُ لِلْقُرْآنِ بِمَجْمُوعِهِ أَيْ مَجْمُوعِ هَذَا الْكِتَابِ إِذْ لَيْسَتْ كُلُّ آيَةٍ مِنْ آيَاتِهِ وَلَا كُلُّ سُورَةٍ مِنْ سُوَرِهِ بِمُشْتَمِلَةٍ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْإِعْجَازِ، وَلِذَلِكَ فَهُوَ إِعْجَازٌ حَاصِلٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرُ حَاصِلٍ بِهِ التَّحَدِّي إِلَّا إِشَارَةً نَحْوَ قَوْلِهِ: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاء: ٨٢] .
وَإِعْجَازُهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لِلْعَرَبِ ظَاهِرٌ، إِذْ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِتِلْكَ الْعُلُومِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا [هود: ٤٩] وَإِعْجَازُهُ لِعَامَّةِ النَّاسِ أَنْ تَجِيءَ تِلْكَ الْعُلُومُ مِنْ رَجُلٍ نَشَأَ أُمِّيًّا فِي قَوْمٍ أُمِّيِّينَ، وَإِعْجَازُهُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً إِذْ كَانَ يُنْبِئُهُمْ بِعُلُومِ دِينِهِمْ مَعَ كَوْنِهِ أُمِّيًّا، وَلَا قِبَلَ لَهُمْ بِأَنْ يَدَّعُوا أَنَّهُمْ عَلَّمُوهُ لِأَنَّهُ كَانَ بِمَرْأًى مِنْ قَوْمِهِ فِي مَكَّةَ بَعِيدًا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانَ مُسْتَقَرُّهُمْ بِقُرَى النَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ وَخَيْبَرَ وَتَيْمَاءَ وَبِلَادِ فِلَسْطِينَ، وَلِأَنَّهُ جَاءَ بِنَسْخِ دِينِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَالْإِنْحَاءِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي تَحْرِيفِهِمْ، فَلَوْ كَانَ قَدْ تَعَلَّمَ مِنْهُمْ لَأَعْلَنُوا ذَلِكَ وَسَجَّلُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ عَقَّهُمْ حَقَّ التَّعْلِيمِ.
وَأَمَّا الْجِهَةُ الرَّابِعَةُ وَهِيَ الْإِخْبَارُ بِالْمُغَيَّبَاتِ فَقَدِ اقْتَفَيْنَا أَثَرَ مَنْ سَلَفَنَا مِمَّنْ عَدَّ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ اعْتِدَادًا مِنَّا بِأَنَّهُ مِنْ دَلَائِلِ كَوْنِ الْقُرْآنِ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ
لَيْسَ لَهُ مَزِيدُ تَعَلُّقٍ بِنَظْمِ الْقُرْآنِ وَدَلَالَةِ فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ عَلَى الْمَعَانِي الْعُلْيَا، وَلَا هُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَسَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَى جُزْئِيَّاتِ هَذَا النَّوْعِ فِي تَضَاعِيفِ هَذَا التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَدْ جَاءَ كَثِيرٌ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ بِذَلِكَ مِنْهَا قَوْلُهُ: الم غُلِبَتِ الرُّومُ [الرُّومُ: ١، ٢] الْآيَةَ رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي تَفْسِيرِهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ أَهْلُ فَارِسَ عَلَى الرُّومِ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ أَهْلُ أَوْثَانٍ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ الرُّومُ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [الرّوم: ١- ٤] فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ يَصِيحُ بِهَا فِي نَوَاحِي مَكَّةَ، فَقَالَ لَهُ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَفَلَا نُرَاهِنُكَ عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute