فِيهِ، وَمَعْنَى تَفْضِيلِهِمْ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ لَا تَقُومُ بِهِ جَمِيعُ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ لَا يَخْلُو مُسْلِمٌ مِنَ الْقِيَامِ بِمَا يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ بِهِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ، عَلَى حَسْبِ مَبْلَغِ الْعِلْمِ وَمُنْتَهَى الْقُدْرَةِ، فَمِنَ التَّغْيِيرِ عَلَى الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ، إِلَى التَّغْيِيرِ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْبَلَدِ، أَوْ لِأَنَّ وُجُودَ طَوَائِفِ الْقَائِمِينَ بِهَذَا الْأَمْرِ فِي مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ أَوْجَبُ فَضِيلَةٍ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، لِكَوْنِ هَذِهِ الطَّوَائِفِ مِنْهَا كَمَا كَانَتِ الْقَبِيلَةُ تفتخر بِمَحَامِد طوائقها، وَفِي هَذَا ضَمَانٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْقَطِعُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِعْلُ (كَانَ) يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ مَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ فِي زَمَنٍ مَضَى، دُونَ دَلَالَةٍ عَلَى اسْتِمْرَارٍ، وَلَا عَلَى انْقِطَاعٍ، قَالَ تَعَالَى وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النِّسَاء: ٩٦] أَيْ وَمَا زَالَ، فَمَعْنَى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ وُجِدْتُمْ عَلَى حَالَةِ الْأَخْيَرِيَّةِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ، أَيْ حَصَلَتْ لَكُمْ هَذِهِ الْأَخْيَرِيَّةُ بِحُصُولِ أَسْبَابِهَا وَوَسَائِلِهَا، لأنّهم اتَّصَفُوا بِالْإِيمَانِ، وَالدَّعْوَةِ لِلْإِسْلَامِ، وَإِقَامَتِهِ عَلَى وَجهه، والذبّ عَنهُ النُّقْصَانِ وَالْإِضَاعَةِ لِتَحَقُّقِ أَنَّهُمْ لَمَّا جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ وَاجِبِهِمْ، وَقَدْ قَامَ كُلٌّ بِمَا اسْتَطَاعَ، فَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُمُ الْقِيَامُ بِهِ، أَوْ قَدْ ظَهَرَ مِنْهُمُ الْعَزْمُ عَلَى امْتِثَالِهِ، كُلَّمَا سَنَحَ سَانِحٌ يَقْتَضِيهِ، فَقَدْ تَحَقَّقَ أَنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ عَلَى الْإِجْمَالِ فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ. هَذَا إِذا بنينَا عَلَى كَوْنِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
[آل عمرَان: ١٠٤] وَمَا بَعْدَهُ مِنَ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا [آل عمرَان: ١٠٥] الْآيَةَ، لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا عِنْدَهُمْ مِنْ قَبْلُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ مَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ فِيمَا مَضَى تَفْعَلُونَهَا إِمَّا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِكُمْ، حِرْصًا عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ وَاسْتِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا مِنَ اللَّهِ فِي مُصَادَفَتِكُمْ لِمَرْضَاتِهِ وَمُرَادِهِ، وَإِمَّا بِوُجُوبٍ سَابِقٍ حَاصِلٍ مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى مِثْلَ قَوْلِهِ:
وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ [الْعَصْر: ٣] وَحِينَئِذٍ فَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ، أَثْنَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا تَارِكِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَهَذَا إِذَا بَنَيْنَا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ [آل عمرَان: ١٠٤] تَأْكِيدًا لِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، وَإِعْلَامٌ بِأَنَّهُ وَاجِبٌ، أَوْ بِتَأْكِيدِ وُجُوبِهِ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي قَدَّمْتُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute