للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

(١١٥)

تَذْيِيلٌ لِلْجُمَلِ الْمُفْتَتَحَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ [آل عمرَان: ١١٣] إِلَى قَوْلِهِ مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمرَان: ١١٤] وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَفْعَلُوا- بِالْفَوْقِيَّةِ- فَهُوَ وَعْدٌ لِلْحَاضِرِينَ، وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ الصَّالِحِينَ السَّابِقِينَ مِثْلُهُمْ، بِقَرِينَةِ مَقَامِ الِامْتِنَانِ، وَوُقُوعِهُ عَقِبَ ذِكْرِهِمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ وَيَفْعَلُوا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْتِفَاتًا لِخِطَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَخَلَفٌ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- عَائِدًا إِلَى أُمَّةٌ قَائِمَةٌ.

وَالْكُفْرُ: ضِدُّ الشُّكْرِ أَيْ هُوَ إِنْكَارُ وُصُولِ النِّعْمَةِ الْوَاصِلَةِ. قَالَ عَنْتَرَةُ:

نُبِّئْتُ عَمْرًا غَيْرَ شَاكِرِ نِعْمَتِي ... وَالْكَفْرُ مَخْبَثَةٌ لِنَفْسِ الْمُنْعِمِ

وَقَالَ تَعَالَى وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ وَأَصْلُ الشُّكْر وَالْكفْر أيتعديا إِلَى وَاحِدٍ، وَيَكُونُ مَفْعُولُهُمَا النِّعْمَةَ كَمَا فِي الْبَيْتِ. وَقَدْ يُجْعَلُ مَفْعُولُهُمَا الْمُنْعِمُ عَلَى التَّوَسُّعِ فِي حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ، لِأَنَّ الْأَصْلَ شَكَرْتُ لَهُ وَكَفَرْتُ لَهُ. قَالَ النَّابِغَةُ:

شَكَرْتُ لَكَ النُّعْمَى وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الِاسْتِعْمَالَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [الْبَقَرَة: ١٥٢] وَقد عدّي تَكْفُرُونِ هُنَا إِلَى مَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا نَائِبُ الْفَاعِلِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ ضُمِّنَ مَعْنَى الْحِرْمَانِ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ عَائِدٌ إِلَى خَيْرٍ بِتَأْوِيلِ خَيْرٍ بِجَزَاءِ فِعْلِ الْخَيْرِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِخْدَامِ وَأُطْلِقَ الْكُفْرُ هُنَا عَلَى تَرْكِ جَزَاءِ فِعْلِ الْخَيْرِ، تَشْبِيهًا لِفِعْلِ الْخَيْرِ بِالنِّعْمَةِ. كَأَنَّ

فَاعِلَ الْخَيْرِ أَنْعَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِنِعْمَتِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [التغابن: ١٧] فَحُذِفَ الْمُشَبَّهُ وَرُمِزَ إِلَيْهِ بِمَا هـ من لَوَازِم الْعُرْفِيَّةِ. وَهُوَ الْكُفْرُ، عَلَى أَنَّ فِي الْقَرِينَةِ اسْتِعَارَةً مُصَرِّحَةً مِثْلَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ٢٧] . وَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِذْ جَعَلَ طَاعَتَنَا إِيَّاهُ كَنِعْمَةٍ عَلَيْهِ تَعَالَى، وَجَعَلَ ثَوَابَهَا شُكْرًا، وَتَرْكَ ثَوَابِهَا كُفْرًا فَنَفَاهُ. وَسَمَّى نَفْسَهُ الشَّكُورَ.

وَقد عدّي الْكفْر أَن هُنَا إِلَى النِّعْمَةِ عَلَى أصل تعديته.