بِقَوْلِهِ: وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا [آل عمرَان:
١١٩] إِلَخْ ... وَأَكْثَرُهُمْ مِنَ الْيَهُودِ، دُونَ الَّذِينَ كَانُوا مُشْرِكِينَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. وَهَذَا مَوْقِعُ الِاسْتِنْتَاجِ فِي صِنَاعَةِ الْخَطَابَةِ بَعْدَ ذِكْرِ التَّمْهِيدَاتِ وَالْإِقْنَاعَاتِ. وَحَقُّهُ الِاسْتِئْنَافُ الِابْتِدَائِيُّ كَمَا هُنَا.
وَالْبِطَانَةُ- بِكَسْرِ الْبَاءِ- فِي الْأَصْلِ دَاخِلُ الثَّوْبِ، وَجَمْعُهَا بَطَائِنُ، وَفِي الْقُرْآنِ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ [الرَّحْمَن: ٥٤] وَظَاهِرُ الثَّوْبِ يُسَمَّى الظِّهَارَةُ- بِكَسْرِ الظَّاءِ-. وَالْبِطَانَةُ أَيْضًا الثَّوْبُ الَّذِي يُجْعَلُ تَحْتَ ثَوْبٍ آخَرَ، وَيُسَمَّى الشِّعَارَ، وَمَا فَوْقَهُ الدِّثَارَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ» ثُمَّ أُطْلِقَتِ الثِّيَابِ فِي شِدَّةِ الْقُرْبِ مِنْ صَاحِبِهَا.
وَمَعْنَى اتِّخَاذِهِمْ بِطَانَةً أَنهم كَانُوا يحالفونهم وَيَوَدُّونَهُمْ مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ فَلَمَّا أَسْلَمَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأَنْصَارِ بَقِيَتِ الْمَوَدَّةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ كَانُوا أَحْلَافَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الْيَهُودِ مَنْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَقِيَ عَلَى دِينِهِ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِكُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) فِيهِ زَائِدَةٌ وَ (دُونَ) اسْمُ مَكَانٍ بِمَعْنَى حَوْلَكُمْ، وَهُوَ الِاحْتِمَالُ الْأَظْهَرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي نَظِيرِهِ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا
رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً
[التَّوْبَة: ١٦] وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ وَ (دُونَ) بِمَعْنَى غَيْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ [الْفَتْح: ٢٧] مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ، وَقَدْ عَلِمَ السَّامِعُونَ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنِ اتِّخَاذِهِمْ بِطَانَةً هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُمَوِّهُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ مِنْهُمْ، وَدَخَائِلُهُمْ تَقْتَضِي التَّحْذِيرَ مِنِ اسْتِبْطَانِهِمْ.
وَجُمْلَةُ: لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا صِفَةٌ لِبِطَانَةٍ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا الْوَصْفُ لَيْسَ مِنَ الْأَوْصَافِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي تُفِيدُ تَخْصِيصَ النَّكِرَةِ عَمَّا شَارَكَهَا، لَكِنَّهُ يَظْهَرُ بِظُهُورِ آثَارِهِ لِلْمُتَوَسِّمِينَ. فَنَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ اتِّخَاذِ بِطَانَةٍ هَذَا شَأْنُهَا وَسَمْتُهَا، وَوَكَلَهُمْ إِلَى تَوَسُّمِ الْأَحْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ وَقَوْلُهُ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ جُمْلَتَيْنِ فِي مَحَلِّ الْوَصْفِ أَيْضًا عَلَى طَرِيقَةِ تَرْكِ عطف الصِّفَات، ويومىء إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute