وَلَفْظُ (الْأَمْرِ) مِنْ قَوْلِهِ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَعْنَاهُ الشَّأْنُ، وَ (الْ) فِيهِ لِلْعَهْدِ، أَيْ مِنَ الشَّأْنِ الَّذِي عَرَفْتُمُوهُ وَهُوَ النَّصْرُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ الْجُمْلَةُ عَلَى أَنَّهَا كِنَايَةٌ عَنْ صَرْفِ النَّبِيءِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَنِ الِاشْتِغَالِ بِشَأْنِ مَا صَنَعَ اللَّهُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا، مِنْ قَطْعِ طَرَفِهِمْ، وَكَبْتِهِمْ أَوْ تَوْبَةٍ عَلَيْهِمْ، أَوْ تَعْذِيبٍ لَهُم: أَي فَذَلِك مَوْكُولٌ إِلَيْنَا نُحَقِّقُهُ مَتَى أَرَدْنَا، وَيَتَخَلَّفُ مَتَى أَرَدْنَا عَلَى حَسْبِ مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُنَا، وَذَلِكَ كَالِاعْتِذَارِ عَنْ تَخَلُّفِ نَصْرِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ.
فَلَفْظُ (الْأَمْرِ) بِمَعْنَى شَأْنِ الْمُشْرِكِينَ. وَالتَّعْرِيفُ فِيهِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ لَيْسَ لَكَ مِنْ أَمْرِهِمُ اهْتِمَامٌ. وَهَذَا تَذْكِيرٌ بِمَا كَانَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ تَخَوُّفِ ظُهُورِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ، وَإِلْحَاحِهِ فِي الدُّعَاءِ بِالنَّصْرِ. وَلَعَلَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يودّ استيصال جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ حَيْثُ وَجَدَ مُقْتَضَى ذَلِكَ وَهُوَ نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ لِإِهْلَاكِهِمْ، فَذَكَّرَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُقَدِّرِ اسْتِيصَالَهُمْ جَمِيعًا بَلْ جَعَلَ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ أَلْوَانًا فَانْتَقَمَ مِنْ طَائِفَةٍ بِقَطْعِ طَرَفٍ مِنْهُمْ، وَمِنْ بَقِيَّتِهِمْ بِالْكَبْتِ، وَهُوَ الْحُزْنُ عَلَى قَتْلَاهُمْ، وَذَهَابُ رُؤَسَائِهِمْ، وَاخْتِلَالُ أُمُورِهِمْ، وَاسْتَبْقَى طَائِفَةً لِيَتُوبَ عَلَيْهِمْ وَيَهْدِيَهُمْ، فَيَكُونُوا قُوَّةً لِلْمُسْلِمِينَ فَيُؤْمِنُوا بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُمْ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَيَوْمَ الْفَتْحِ: مِثْلُ أَبِي سُفْيَانَ، وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَخِي أَبِي جَهْلٍ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، وَصَفْوَانِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَعَذَّبَ طَائِفَةً عَذَابَ الدُّنْيَا بِالْأَسْرِ، أَوْ بِالْقَتْلِ: مِثْلَ ابْنِ خَطَلٍ، وَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُ:
«لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ» . وَوُضِعَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ لِيَظْهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ من الْأَمر هُوَ الْأَمْرِ الدَّائِرِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ لَيْسَ لَكَ مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْأَرْبَعَةِ شَيْءٌ وَلَكِنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى اللَّهِ، هُوَ أَعْلَمُ بِمَا سَيَصِيرُونَ إِلَيْهِ وَجَعَلَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ قَبْلَ قَوْلِهِ: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ اسْتِئْنَاسٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ قَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ لِأَجْلِهِ، ثُمَّ أَرْدَفَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْعَفْوِ عَنْهُمْ، ثُمَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute