(١٤٨)
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ [آل عمرَان: ١٤٤] الْآيَةَ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَهُوَ عَطْفُ الْعِبْرَةِ عَلَى الْمَوْعِظَةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ مَوْعِظَةٌ لِمَنْ يَهُمُّ بِالِانْقِلَابِ، وَقَوْلَهُ: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ عِبْرَةٌ بِمَا سَلَفَ مِنْ صَبْرِ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ عِنْدَ إِصَابَةِ أَنْبِيَائِهِمْ أَوْ قَتْلِهِمْ، فِي حَرْبٍ أَوْ غَيْرِهِ، لِمُمَاثَلَةِ الْحَالَيْنِ. فَالْكَلَامُ تَعْرِيضٌ بِتَشْبِيهِ حَالِ أَصْحَابِ أُحُدٍ بِحَالِ أَصْحَابِ الْأَنْبِيَاءِ السَّالِفِينَ لِأَنَّ مَحَلَّ الْمَثَلِ لَيْسَ هُوَ خُصُوصُ الِانْهِزَامِ فِي الْحَرْبِ بَلْ ذَلِكَ هُوَ الْمُمَثَّلُ. وَأَمَّا التّشبيه فَهُوَ بَصِير الْأَتْبَاعِ عِنْدَ حُلُولِ الْمَصَائِبِ أَوْ مَوْتِ الْمَتْبُوعِ.
«وَكَأَيِّنْ» كَلِمَةٌ بِمَعْنَى التَّكْثِيرِ، قِيلَ: هِيَ بَسِيطَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّكْثِيرِ، وَقِيلَ: هِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَافِ التَّشْبِيهِ وَأَيِّ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ، وَلَيْسَتْ (أَيُّ) هَذِهِ اسْتِفْهَامًا حَقِيقِيًّا، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا تَذْكِيرُ الْمُسْتَفْهِمِ بِالتَّكْثِيرِ، فَاسْتِفْهَامُهَا مَجَازِيٌّ، وَنُونُهَا فِي الْأَصْلِ تَنْوِينٌ، فَلَمَّا رُكِّبَتْ وَصَارَتْ كَلِمَةً وَاحِدَةً جُعِلَ تَنْوِينُهَا نُونًا وَبُنِيَتْ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا بَسِيطَةٌ وَفِيهَا لُغَاتٌ أَرْبَعُ، أَشْهَرُهَا فِي النَّثْرِ كَأَيِّنْ بِوَزْنِ كَعَيِّنْ (هَكَذَا جَرَتْ عَادَةُ اللُّغَوِيِّينَ وَالنُّحَاةِ إِذَا وَزَنُوا الْكَلِمَاتِ الْمَهْمُوزَةَ أَنْ يُعَوِّضُوا عَنْ حَرْفِ الْهَمْزَةِ بِحَرْفِ الْعَيْنِ لِئَلَّا تَلْتَبِسَ الْهَمْزَةُ بِالْأَلْفِ أَوِ الْيَاءِ الَّتِي تُكْتَبُ فِي صُورَةِ إِحْدَاهُمَا) ، وَأَشْهَرُهَا فِي الشّعْر كَائِن بِوَزْن اسْمُ فَاعِلِ كَانَ، وَلَيْسَتْ بَاسِمِ فَاعِلٍ خِلَافًا لِلْمُبَرِّدِ، بَلْ هِيَ مُخَفَّفُ كَأَيِّنْ.
وَلَهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ تَخْفِيفِهَا تَوْجِيهَاتٌ أَصْلُهَا قَوْلُ الْخَلِيلِ لَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا تَصَرَّفَ فِيهَا الْعَرَبُ بِالْقَلْبِ وَالْحَذْفِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ. قُلْتُ: وَتَفْصِيلُهُ يَطُولُ. وَأَنَا أَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا رَامُوا التَّخْفِيفَ جَعَلُوا الْهَمْزَةَ أَلِفًا، ثُمَّ الْتَقَى سَاكِنَانِ عَلَى غَيْرِ حَدِّهِ، فَحَذَفُوا الْيَاءَ السَّاكِنَةَ فَبَقِيَتِ الْيَاءُ الْمَكْسُورَةُ فَشَابَهَتِ اسْمَ فَاعِلِ (كَانَ) فَجَعَلُوهَا هَمْزَةً كَالْيَاءِ الَّتِي تَقَعُ بَعْدَ أَلْفٍ زَائِدَةٍ، وَأَكْثَرُ مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ كَأَيِّنْ لِأَنَّهَا أَخَفُّ فِي النَّظْمِ وَأَسْعَدُ بِأَكْثَرِ الْمَوَازِينِ فِي أَوَائِل الأبيات وأواسطها بِخِلَافِ كَائِنٍ، قَالَ الزَّجَّاجُ: اللُّغَتَانِ الْجَيِّدَتَانِ كَأَيِّنٍ وَكَائِنٍ.
وَحَكَى الشَّيْخُ ابْنُ عَرَفَةَ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ شَيْخِهِ ابْنِ الْحُبَابِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شَيْخُنَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute