للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ذَهَبَتْ بِهِمْ هَوَاجِسُهُمْ إِلَى أَن ظنُّوا بِاللَّهِ ظُنُونًا بَاطِلَةً مِنْ أَوْهَامِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا عَلَى جَاهِلِيَّتِهِمْ لَمْ يُخْلِصُوا الدِّينَ لِلَّهِ، وَقَدْ بَيَّنَ بَعْضَ مَا لَهُمْ الظَّنِّ بِقَوْلِهِ: يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ وَهل لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ بِمَعْنَى النَّفْيِ، بِقَرِينَةِ زِيَادَةِ (مِنْ) قَبْلَ النَّكِرَةِ، وَهِيَ مِنْ خَصَائِصِ النَّفْيِ، وَهُوَ تَبْرِئَةٌ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ أَنْ يَكُونُوا سَبَبًا فِي مُقَابَلَةِ

الْعَدُوِّ. حَتَّى نَشَأَ عَنْهُ مَا نَشَأَ، وَتَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْخُرُوجَ لِلْقِتَالِ يَوْمَ أُحُدٍ خَطَأٌ وَغُرُورٌ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِرَسُولٍ إِذْ لَوْ كَانَ لَكَانَ مُؤَيَّدًا بِالنَّصْرِ.

وَالْقَوْلُ فِي هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ كَالْقَوْلِ فِي لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا. وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ هُنَا شَأْنُ الْخُرُوجِ إِلَى الْقِتَالِ. وَالْأَمْرُ بِمَعْنَى السِّيَادَةِ الَّذِي مِنْهُ الْإِمَارَةُ، وَمِنْهُ أُولُو الْأَمْرِ.

وَجُمْلَةُ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ يَظُنُّونَ لِأَنَّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ. وَمَعْنَى لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَيْ مِنْ شَأْنِ الْخُرُوجِ إِلَى الْقِتَالِ، أَو من أَمر تَدْبِيرِ النَّاسِ شَيْءٌ، أَيْ رَأْيٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا، أَيْ مَا قُتِلَ قَوْمُنَا. وَلَيْسَ الْمُرَادُ انْتِفَاءَ الْقَتْلِ مَعَ الْخُرُوجِ إِلَى الْقِتَالِ فِي أُحُدٍ، بَلِ الْمُرَادُ انْتِفَاءُ الْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ الَّذِي كَانَ سَبَبًا فِي قَتْلِ مَنْ قُتِلَ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ قَرِينَةُ الْإِشَارَةِ بِقَوْلِهِ: (هَاهُنَا) ، فَالْكَلَامُ كِنَايَةٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ لَمَّا أَخْبَرُوهُ بِمَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْخَزْرَجِ يَوْمَئِذٍ، وَهَذَا تَنَصُّلٌ مِنْ أَسْبَابِ الْحَرْبِ وَتَعْرِيضٌ بِالنَّبِيءِ وَمَنْ أَشَارَ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ رَغِبُوا فِي إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ.

وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الظَّنُّ غَيْرَ الْحَقِّ لِأَنَّهُ تَخْلِيطٌ فِي مَعْرِفَةِ صِفَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِ رَسُولِهِ وَمَا يَجُوزُ وَمَا يَسْتَحِيلُ، فَإِنَّ لِلَّهِ أَمْرًا وَهَدْيًا وَلَهُ قَدَرٌ وَتَيْسِيرٌ، وَكَذَلِكَ لِرَسُولِهِ الدَّعْوَةُ وَالتَّشْرِيعُ وَبَذْلُ الْجُهْدَ فِي تَأْيِيدِ الدِّينِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ مَعْصُومٌ، وَلَيْسَ مَعْصُومًا مِنْ جَرَيَانِ الْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَيْهِ، وَمِنْ أَنْ يَكُونَ الْحَرْبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ سِجَالًا، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِهِرَقْلَ وَقَدْ سَأَلَهُ: كَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ لَهُ؟