للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَاللِّينُ هُنَا مَجَازٌ فِي سِعَةِ الْخَلْقِ مَعَ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَفِي الصَّفْحِ عَنْ جَفَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِقَالَةِ الْعَثَرَاتِ. وَدَلَّ فِعْلُ الْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ: لِنْتَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ تَقَرَّرَ وَعُرِفَ مِنْ خُلُقِهِ، وَأَنَّ فِطْرَتَهُ عَلَى ذَلِكَ بِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ إِذْ خَلَقَهُ كَذَلِكَ واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَام: ١٢٤] ، فَخُلُقُ الرَّسُولِ مُنَاسِبٌ لِتَحْقِيقِ حُصُولِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ إِرْسَالِهِ، لِأَنَّ الرَّسُولَ يَجِيءُ بِشَرِيعَةٍ يُبَلِّغُهَا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالتَّبْلِيغُ مُتَعَيَّنٌ لَا مُصَانَعَةَ فِيهِ، وَلَا يَتَأَثَّرُ بِخُلُقِ الرَّسُولِ، وَهُوَ أَيْضًا مَأْمُورٌ بِسِيَاسَةِ أُمَّتِهِ بِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ، وَتَنْفِيذِهَا فِيهِمْ،

وَهَذَا عَمَلٌ لَهُ ارْتِبَاطٌ قَوِيٌّ بِمُنَاسَبَةِ خُلُقِ الرَّسُولِ لِطِبَاعِ أُمَّتِهِ حَتَّى يُلَائِمَ خُلُقَهُ الْوَسَائِلُ الْمُتَوَسَّلُ بِهَا لِحَمْلِ أُمَّتِهِ عَلَى الشَّرِيعَةِ النَّاجِحَةِ فِي الْبُلُوغِ بِهِمْ إِلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُمْ.

أرسل محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَفْطُورًا عَلَى الرَّحْمَة، فَكَانَ لينه رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ بِالْأُمَّةِ فِي تَنْفِيذِ شَرِيعَتِهِ بِدُونِ تَسَاهُلٍ وَبِرِفْقٍ وَإِعَانَةٍ عَلَى تَحْصِيلِهَا، فَلِذَلِكَ جُعِلَ لِينُهُ مُصَاحِبًا لِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِيهِ، إِذْ هُوَ قد بُعِثَ لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَلَكِنِ اخْتَارَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ دَعْوَتُهُ بَيْنَ الْعَرَبِ أَوَّلَ شَيْءٍ لِحِكْمَةٍ أَرَادَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي أَنْ يَكُونَ الْعَرَبُ هُمْ مُبَلِّغِي الشَّرِيعَةِ لِلْعَالَمِ.

وَالْعَرَبُ أُمَّةٌ عُرِفَتْ بِالْأَنَفَةِ، وَإِبَاءِ الضَّيْمِ، وَسَلَامَةِ الْفِطْرَةِ. وَسُرْعَةِ الْفَهْمِ. وَهُمُ الْمُتَلَقُّونَ الْأَوَّلُونَ لِلدِّينِ فَلَمْ تَكُنْ تَلِيقُ بِهِمُ الشِّدَّةُ وَالْغِلْظَةُ، وَلَكِنَّهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَى اسْتِنْزَالِ طَائِرِهِمْ فِي تَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ لَهُمْ، لِيَتَجَنَّبُوا بِذَلِكَ الْمُكَابَرَةَ الَّتِي هِيَ الْحَائِلُ الْوَحِيدُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِذْعَانِ إِلَى الْحَقِّ. وَوَرَدَ أَنَّ صفح النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَفْوَهُ وَرَحْمَتَهُ كَانَ سَبَبًا فِي دُخُولِ كَثِيرٍ فِي الْإِسْلَامِ، كَمَا ذَكَرَ بَعْضُ ذَلِكَ عِيَاضٌ فِي كِتَابِ الشِّفَاءِ.

فَضَمِيرُ لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى مَقَامِ التَّشْرِيعِ وَسِيَاسَةِ الْأُمَّةِ، وَلَيْسَ عَائِدًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ عَصَوْا أَمْرَ الرَّسُولِ يَوْمَ أُحُدٍ، لِأَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ بَعْدَهُ:

لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ إِذْ لَا يُظَنُّ ذَلِكَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ بَعْدَهُ:

وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ الْمُشَاوَرَةَ