وَأَقْبَلْتُ وَالْخَطِّيُّ يَخْطُرُ بَيْنَنَا ... لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شجاعها
أَرَادَ لتظهر شَجَاعَتِي وَجُبْنِ الْآخَرِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ قَرِيبًا.
والَّذِينَ نافَقُوا هُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبيّ وَمن انخزل مَعَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُمُ الَّذِينَ قيل لَهُم: تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا. قَالَهُ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَرَامٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَالِدُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لمّا رأى انخزالهم قَالَ لَهُمْ: اتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَتْرُكُوا نَبِيئَكُمْ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا. وَالْمُرَادُ بِالدَّفْعِ حِرَاسَةُ الْجَيْشِ وَهُوَ الرِّبَاطُ أَيِ: ادْفَعُوا عَنَّا مَنْ يُرِيدُنَا مِنَ الْعَدُوِّ فَلَمَّا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَرَامٍ ذَلِكَ أَجَابَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتّبعناكم، أَي لم نَعْلَمُ أَنَّهُ قِتَالٌ، قِيلَ: أَرَادوا أنّ هَذَا لَيْسَ بِقِتَالٍ بَلْ إِلْقَاءٌ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَقِيلَ: أَرَادُوا أَنَّ قُرَيْشًا لَا يَنْوُونَ الْقِتَالَ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ إِلَّا لَوْ كَانَ قَوْلُهُمْ هَذَا حَاصِلا قبل انخزالهم، وَعَلَى هَذَيْنِ فَالْعِلْمُ بِمَعْنَى التَّحَقُّقِ
الْمُسَمَّى بِالتَّصْدِيقِ عِنْدَ الْمَنَاطِقَةِ، وَقِيلَ: أَرَادُوا لَوْ نُحْسِنُ الْقِتَالَ لَاتَّبَعْنَاكُمْ، فَالْعِلْمُ بِمَعْنَى الْمَعْرِفَةِ، وَقَوْلُهُمْ حِينَئِذٍ تَهَكُّمٌ وَتَعَذُّرٌ.
وَمَعْنَى هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ أَنَّ مَا يُشَاهَدُ مِنْ حَالِهِمْ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ دلَالَة على أَنهم يبطنون الْكُفْرِ مِنْ دَلَالَةِ أَقْوَالِهِمْ: إِنَّا مُسْلِمُونَ، وَاعْتِذَارِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ. أَيْ إِنَّ عُذْرَهُمْ ظَاهِرُ الْكَذِبِ، وَإِرَادَةِ تَفْشِيلِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْقُرْبِ مَجَازٌ فِي ظُهُورِ الْكُفْرِ عَلَيْهِمْ.
وَيَتَعَلَّقُ كُلٌّ مِنَ الْمَجْرُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ بِقَوْلِهِ: أَقْرَبُ لِأَنَّ أَقْرَبُ تَفْضِيلٌ يَقْتَضِي فَاضِلًا وَمَفْضُولًا، فَلَا يَقَعُ لبس فِي تعلّق مَجْرُورَيْنِ بِهِ لِأَنَّ السَّامِعَ يَرُدُّ كُلَّ مَجْرُورٍ إِلَى بَعْضِ مَعْنَى التَّفْضِيلِ.
وَقَوْلُهُ: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ مَغْزَى هَذَا الِاقْتِرَابِ، لِأَنَّهُمْ يُبْدُونَ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، فَكَيْفَ جُعِلُوا إِلَى الْكُفْرِ أَقْرَبَ، فَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي يُبْدُونَهُ لَيْسَ مُوَافِقًا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَفِي هَذَا الِاسْتِئْنَافِ مَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ: هُمْ لِلْكُفْرِ أَهْلَ الْكُفْرِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute