للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ الْجَدَلِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّسْلِيمِ، أَيْ إِذَا سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَلَيْسَ امْتِنَاعُكُمْ مِنِ اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ لِأَجْلِ انْتِظَارِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ فَإِنَّكُمْ قَدْ كَذَّبْتُمُ الرُّسُل الَّذين جاؤوكم بِهَا وَقَتَلْتُمُوهُمْ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّسْلِيمَ يَأْتِي عَلَى مَذْهَبِ الْخَصْمِ إِذْ لَا شَكَّ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلُوا أَنْبِيَاءَ مِنْهُمْ بَعْدَ أَنْ آمَنُوا بهم، مثل زَكَرِيَّاء وَيَحْيَى وَأَشْعِيَاءَ وَأَرْمِيَاءَ، فَالْإِيمَانُ بِهِمْ أَوَّلَ الْأَمْرِ يسْتَلْزم أَنهم جاؤوا بِالْقُرْبَانِ تَأْكُلُهُ النَّارُ عَلَى قَوْلِهِمْ، وَقَتْلُهُمْ آخِرًا يَسْتَلْزِمُ أَنَّ عَدَمَ الثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْأَنْبِيَاءِ شَنْشَنَةٌ قَدِيمَةٌ فِي الْيَهُودِ وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ، فَلَا عَجَبَ أَنْ يَأْتِيَ خَلَفُهُمْ بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ سَلَفُهُمْ.

وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ مَا زَعَمُوهُ مِنَ الْعَهْدِ لَهُمْ بِذَلِكَ كَذِبٌ وَمَعَاذِيرُ بَاطِلَةٌ.

وَإِنَّمَا قَالَ: وَبِالَّذِي قُلْتُمْ عُدِلَ إِلَى الْمَوْصُولِ لِلِاخْتِصَارِ وَتَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ فِي نِسْبَةِ ذَلِكَ لَهُمْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً إِلَى قَوْلِهِ: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ [مَرْيَم: ٧٧، ٨٠] أَيْ نَرِثُ مَالَهُ وَوَلَدَهُ.

ثمَّ سلى الله نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

بِقَوْلِهِ: «فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ»

وَالْمَذْكُورُ بَعْدَ

الْفَاءِ دَلِيلُ الْجَوَابِ لِأَنَّهُ عِلَّتُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَلَا عَجَبَ أَو فَلَا تخزن لِأَنَّ هَذِهِ سُنَّةٌ قَدِيمَةٌ فِي الْأُمَمِ مَعَ الرُّسُلِ مِثْلِكَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِنَقْصٍ فِيمَا جِئْتَ بِهِ. والبيّنات: الدَّلَائِلُ عَلَى الصِّدْقِ، وَالزُّبُرُ جَمْعُ زَبُورٍ وَهُوَ فَعَوْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلِ رَسُولٍ، أَيْ مَزْبُورٍ بِمَعْنَى مَخْطُوطٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ زَبَرَ إِذَا زَجَرَ أَوْ حَبَسَ لِأَنَّ الْكِتَابَ يُقْصَدُ لِلْحُكْمِ. وَأُرِيدَ بِالزُّبُرِ كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، مِمَّا يَتَضَمَّنُ مَوَاعِظَ وَتَذْكِيرًا مثل كتاب دَاوُود وَالْإِنْجِيلِ.

وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ: إِنْ كَانَ التَّعْرِيفُ لِلْجِنْسِ فَهُوَ كُتُبُ الشَّرَائِعِ مِثْلُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَإِنْ كَانَ لِلْعَهْدِ فَهُوَ التَّوْرَاةُ، وَوَصْفُهُ بِالْمُنِيرِ مَجَازٌ بِمَعْنَى الْمُبَيِّنِ لِلْحَقِّ كَقَوْلِهِ:

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَة: ٤٤] وَالْعَطْفُ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى التَّوْزِيعِ، فَبَعْضُ الرُّسُلِ جَاءَ بِالزُّبُرِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ، وَكُلُّهُمْ جَاءَ بِالْبَيِّنَاتِ.