(١٨٧)
مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [آل عمرَان: ١٨٦] فَإِنَّ تَكْذِيبَ الرَّسُولِ مِنْ أَكْبَرِ الْأَذَى لِلْمُسْلِمِينَ وَإِنَّ الطَّعْنَ فِي كَلَامِهِ وَأَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ مِنْ ذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آل عمرَان: ١٨١] . وَالْقَوْلُ فِي مَعْنَى أَخْذِ اللَّهِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الْبَقَرَة: ٣٤] وَنَحْوِهِ.
والَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ هُمُ الْيَهُودُ، وَهَذَا الْمِيثَاقُ أُخِذَ عَلَى سَلَفِهِمْ مِنْ عَهْدِ رَسُولِهِمْ وَأَنْبِيَائِهِمْ، وَكَانَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى عُمُومِهِ لِعُلَمَاءِ أُمَّتِهِمْ فِي سَائِرِ أَجْيَالِهِمْ إِلَى أَنْ يَجِيءَ رَسُولٌ.
وَجُمْلَةُ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ بَيَانٌ لِلْمِيثَاقِ، فَهِيَ حِكَايَةُ الْيَمِينِ حِينَ اقْتُرِحَتْ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ جَاءَتْ بِصِيغَةِ خِطَابِهِمْ بِالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ كَمَا قَرَأَ بِذَلِكَ الْجُمْهُورُ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: لَيُبَيِّنُنَّهُ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- عَلَى طَرِيقَةِ الْحِكَايَةِ بِالْمَعْنَى، حَيْثُ
كَانَ الْمَأْخُوذُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْعَهْدَ غَائِبِينَ فِي وَقَتِ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ. وَلِلْعَرَبِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ وُجُوهٌ: بِاعْتِبَارِ كَلَامِ الْحَاكِي، وَكَلَامِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُ، فَقَدْ يَكُونُ فِيهِ وَجْهَانِ كَالْمَحْكِيِّ بِالْقَوْلِ فِي نَحْوِ: أَقْسَمَ زَيْدٌ لَا يَفْعَلُ كَذَا، وَأُقْسِمُ لَا أَفْعَلُ كَذَا، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ [النَّمْل: ٤٩] قرىء- بِالنُّونِ وَالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ- لَنُبَيِّتَنَّهُ لَتُبَيِّتَنَّهُ لَيُبَيِّتَنَّهُ، إِذَا جُعِلَ تَقَاسَمُوا فِعْلًا مَاضِيًا فَإِذَا جُعِلَ أَمْرًا جَازَ وَجْهَانِ: فِي لَنُبَيِّتَنَّهُ النُّونُ وَالتَّاءُ الْفَوْقِيَّةُ. وَالْقَوْلُ فِي تَصْرِيفِ وَإِعْرَابِ لَتُبَيِّنُنَّهُ كَالْقَوْلِ فِي لَتُبْلَوُنَّ الْمُتَقَدِّمِ قَرِيبًا.
وَقَدْ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ بأمرين: هما بَيَان الْكِتَابُ أَيْ عَدَمُ إِجْمَالِ مَعَانِيهِ أَوْ تَحْرِيفِ تَأْوِيلِهِ، وَعَدَمُ كِتْمَانِهِ أَيْ إِخْفَاءِ شَيْءٍ مِنْهُ. فَقَوْلُهُ: وَلا تَكْتُمُونَهُ عَطْفٌ عَلَى لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَمْ يُقْرَنْ بِنُونِ التَّوْكِيدِ لِأَنَّهَا لَا تُقَارِنُ الْفِعْلَ الْمَنْفِيَّ لِتَنَافِي مُقْتَضَاهُمَا.
وَقَوْلُهُ: فَنَبَذُوهُ عُطِفَ بِالْفَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْقِيبِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى مُسَارَعَتِهِمْ إِلَى ذَلِكَ، وَالَّذِينَ نَبَذُوهُ هُمْ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ فِي عُصُورِهِمُ الْأَخِيرَةِ الْقَرِيبَةِ مِنْ عَهْدِ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، فَالتَّعْقِيبُ الَّذِي بَيْنَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ وَبَيْنَ نَبْذِهِمْ إِيَّاهُ مَنْظُورٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute