تَدُلُّ كُلُّهَا عَلَى مَعْنَى تَكْرِير اسْم الْعدَد لِقَصْدِ التَّوْزِيعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [فاطر: ١] أَيْ لِطَائِفَةٍ جَنَاحَانِ، وَلِطَائِفَةٍ ثَلَاثَةٌ، وَلِطَائِفَةٍ أَرْبَعَةٌ. وَالتَّوْزِيعُ هُنَا بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْمُخَاطَبِينَ فِي السَّعَةِ وَالطَّوْلِ، فَمِنْهُمْ فَرِيقٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يتزوّجوا اثْنَتَيْنِ، فَهَؤُلَاءِ تَكُونُ أَزْوَاجُهُمُ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، وَهَلُمَّ جَرًّا، كَقَوْلِكَ لِجَمَاعَةٍ: اقْتَسِمُوا هَذَا المَال در همين در همين، وَثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَأَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، عَلَى حَسَبِ أَكْبَرِكُمْ سِنًّا. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدُ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً. وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَحْرِيمَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ مُسْتَفَادٌ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الِاقْتِصَارِ غَيْرُ كَافٍ فِي الِاسْتِدْلَالِ وَلَكِنَّهُ يُسْتَأْنَسُ بِهِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَرَّرَتْ مَا ثَبَتَ مِنْ الِاقْتِصَارِ، عَلَى أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ
الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةٍ أَسْلَمَ عَلَى عَشْرِ نِسْوَةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ»
. وَلَعَلَّ الْآيَةَ صَدَرَتْ بِذِكْرِ الْعَدَدِ الْمُقَرَّرِ مِنْ قَبْلِ نُزُولهَا، تمهيدا لشرع الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً صَرِيحٌ فِي اعْتِبَارِ الْعَدْلِ فِي التَّنَازُلِ فِي مَرَاتِبِ الْعَدَدِ يَنْزِلُ بِالْمُكَلَّفِ إِلَى الْوَاحِدَةِ. فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ خَوْفُهُ فِي كُلِّ مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ الْعَدَدِ يَنْزِلُ بِهِ إِلَى الَّتِي دُونَهَا. وَمِنَ الْعَجِيبِ مَا حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ عَنْ قَوْمٍ مِنَ الْجُهَّالِ- لَمْ يُعَيِّنْهُمْ- أَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُبِيحُ لِلرِّجَالِ تَزَوُّجَ تِسْعِ نِسَاءٍ تَوَهُّمًا بِأَنَّ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ مُرَادِفَةٌ لِاثْنَيْنِ وَثَلَاثًا وَأَرْبَعًا، وَأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ، فَحَصَلَتْ
تِسْعَةٌ وَهِيَ الْعَدَدُ الَّذِي جَمَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ نِسَائِهِ، وَهَذَا جَهْلٌ شَنِيعٌ فِي مَعْرِفَةِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ. وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» نِسْبَةُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى الرَّافِضَةِ، وَإِلَى بَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَلَمْ يُعَيِّنْهُ. وَلَيْسَ ذَلِك قولا لداوود الظَّاهِرِيِّ وَلَا لِأَصْحَابِهِ، وَنَسَبَهُ ابْنُ الْفَرَسِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ إِلَى قَوْمٍ لَا يُعْبَأُ بِخِلَافِهِمْ، وَقَالَ الْفَخْرُ: هُمْ قَوْمٌ سُدًى، وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَصَّاصُ مُخَالِفًا أَصْلًا. وَنَسَبَ ابْنُ الْفَرَسِ إِلَى قَوْمٍ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لَا حَصْرَ فِي عَدَدِ الزَّوْجَاتِ وَجَعَلُوا الِاقْتِصَارَ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى: إِلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَدَدِ، وَتَمَسَّكَ هَذَانِ الْفَرِيقَانِ بِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ عَنْ تِسْعِ نِسْوَةٍ، وَهُوَ تَمَسُّكٌ وَاهٍ، فَإِنَّ تِلْكَ خُصُوصِيَّةٌ لَهُ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ، وَتَطَلُّبُ الْأَدِلَّةِ الْقَوَاطِعِ فِي انْتِزَاعِ الْأَحْكَامِ مِنَ الْقُرْآنِ تَطَلُّبٌ لِمَا يَقِفُ بِالْمُجْتَهِدِينَ فِي اسْتِنْبَاطِهِمْ مَوْقِفَ الْحَيْرَةِ، فَإِنَّ مَبْنَى كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى أَسَاسِ الْفِطْنَةِ. وَمَسْلَكُهُ هُوَ مَسْلَكُ اللَّمْحَةِ الدَّالَّةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute