وَلَمْ يَكُنْ فِي الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ وَلَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَدٌّ لِلزَّوْجَاتِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنْ جَاءَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِتَحْدِيدٍ لِلتَّزَوُّجِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ تَوَهَّمَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِثْلُ الْقَرَافِيِّ، وَلَا أَحْسَبُهُ صَحِيحًا، وَالْإِسْلَامُ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِالتَّحْدِيدِ، فَأَمَّا أَصْلُ التَّحْدِيدِ فَحِكْمَتُهُ ظَاهِرَةٌ: مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْعَدْلَ لَا يَسْتَطِيعُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَإِذَا لَمْ يَقُمْ تَعَدُّدُ الزَّوْجَاتِ عَلَى قَاعِدَةِ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ اخْتَلَّ نِظَامُ الْعَائِلَةِ، وَحَدَثَتِ الْفِتَنُ فِيهَا، وَنَشَأَ عُقُوقُ الزَّوْجَاتِ أَزْوَاجَهُنَّ، وَعُقُوقُ الْأَبْنَاءِ آبَاءَهُمْ بِأَذَاهُمْ فِي زَوْجَاتِهِمْ وَفِي أَبْنَائِهِمْ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ الْأَذَى فِي التَّعَدُّدِ لِمَصْلَحَةٍ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَضْبُوطَةً غَيْرَ عَائِدَةٍ عَلَى الْأَصْلِ بِالْإِبْطَالِ.
وَأَمَّا الِانْتِهَاءُ فِي التَّعَدُّدِ إِلَى الْأَرْبَعِ فَقَدْ حَاوَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ تَوْجِيهَهُ فَلَمْ يَبْلُغُوا إِلَى غَايَةٍ مُرْضِيَةٍ، وَأَحْسَبُ أَنَّ حِكْمَتَهُ نَاظِرَةٌ إِلَى نِسْبَةِ عَدَدِ النِّسَاءِ مِنَ الرِّجَالِ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، وَبِاعْتِبَارِ الْمُعَدَّلِ فِي التَّعَدُّدِ فَلَيْسَ كُلُّ رَجُلٍ يَتَزَوَّجُ أَرْبَعًا، فَلْنَفْرِضِ الْمُعَدَّلَ يَكْشِفُ عَنِ امْرَأَتَيْنِ لِكُلِّ رجل، يدلّنا ذَلِك عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ ضَعْفُ الرِّجَالِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا مَا جَاءَ فِي «الصَّحِيحِ» : أَنَّهُ يَكْثُرُ النِّسَاءُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنْ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: فَواحِدَةً، فَقَدْ خَيَّرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَاحِدَةِ بِاعْتِبَارِ التَّعَدُّدِ، أَيْ فَوَاحِدَةً مِنَ الْأَزْوَاجِ أَوْ عَدَدٍ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَمْلُوكَاتِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِنَّ مِنَ الْعَدْلِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْأَزْوَاجِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ حُسْنُ الْمُعَامَلَةِ وَتَرْكُ الضُّرِّ، وَإِنْ عَطَفْتَهُ عَلَى قَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طابَ كَانَ تَخْيِيرًا بَيْنَ التَّزَوُّجِ وَالتَّسَرِّي بِحَسَبِ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَكَانَ الْعَدْلُ فِي الْإِمَاءِ الْمُتَّخَذَاتِ لِلتَّسَرِّي مَشْرُوطًا قِيَاسًا عَلَى الزَّوْجَاتِ، وَكَذَلِكَ الْعَدَدُ بِحَسَبِ الْمَقْدِرَةِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ فِي التَّسَرِّي الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِ لِأَنَّ الْقُيُودَ الْمَذْكُورَةَ بَيْنَ الْجُمَلِ تَرْجِعُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا. وَقَدْ مَنَعَ الْإِجْمَاعُ مِنْ قِيَاسِ الْإِمَاء على الْحَرَائِر فِي نِهَايَةِ الْعَدَدِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَدْخُلُ فِي حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ وَأَنْظَمُ فِي
مَعْنَى قَوْلِهِ: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا إِلَى الْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ بِاعْتِبَارِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute