للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ الْحَالِ الَّتِي يُمْنَعُ فِيهَا السَّفِيهُ مِنْ مَالِهِ، وَالْحَالِ الَّتِي يُؤْتَى فِيهَا مَالَهُ، وَقَدْ يُقَالُ كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يُقَدَّمَ هُنَالِكَ حُكْمُ مَنْعِ تَسْلِيمِ مَالِ الْيَتَامَى لِأَنَّهُ أَسْبَقُ فِي الْحُصُولِ، فَيَتَّجِهُ لِمُخَالَفَةِ هَذَا الْمُقْتَضَى أَنْ نَقُولَ قَدَّمَ حُكْمَ التَّسْلِيمِ، لِأَنَّ النَّاسَ أَحْرَصُ عَلَى ضِدِّهِ، فَلَوِ ابْتَدَأَ بِالنَّهْيِ عَنْ تَسْلِيمِ الْأَمْوَالِ لِلسُّفَهَاءِ لَاتَّخَذَهُ الظَّالِمُونَ حُجَّةً لَهُمْ، وَتَظَاهَرُوا بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَمْنَعُونَ الْأَيْتَامَ أَمْوَالَهُمْ خَشْيَةً مِنَ اسْتِمْرَارِ السَّفَهِ فِيهِمْ، كَمَا يَفْعَلُهُ الْآنَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَوْصِيَاءِ وَالْمُقَدَّمِينَ غَيْرُ الْأَتْقِيَاءِ، إِذْ يَتَصَدَّوْنَ لِلْمُعَارَضَةِ فِي بَيِّنَاتِ ثُبُوتِ الرُّشْدِ لِمُجَرَّدِ الشَّغَبِ وَإِمْلَالِ الْمَحَاجِيرِ مِنْ طَلَبِ حُقُوقِهِمْ.

وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ كَمِثْلِ الْخِطَابِ فِي وَآتُوا الْيَتامى وَآتُوا النِّساءَ هُوَ لِعُمُومِ النَّاسِ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [الْحَج: ١] لِيَأْخُذَ كُلُّ مَنْ يَصْلُحُ لِهَذَا الْحُكْمِ حَظَّهُ مِنَ الِامْتِثَالِ.

والسفهاء يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْيَتَامَى، لِأَنَّ الصِّغَرَ هُوَ حَالَةُ السَّفَهِ الْغَالِبَةِ، فَيَكُونُ مُقَابِلًا لِقَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِيتَاءِ بِمَعْنَى الْحِفْظِ وَالْإِيتَاءِ بِمَعْنَى التَّمْكِينِ، وَيَكُونُ الْعُدُولُ عَنِ التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِالْيَتَامَى إِلَى التَّعْبِيرِ هُنَا بِالسُّفَهَاءِ لِبَيَانِ عِلَّةِ الْمَنْعِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مُطْلَقُ مَنْ ثَبَتَ لَهُ السَّفَهُ، سَوَاءً كَانَ عَنْ صِغَرٍ أَمْ عَنِ اخْتِلَالِ تَصَرُّفٍ، فَتَكُونُ الْآيَةُ قَدْ تَعَرَّضَتْ لِلْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ الْكَبِيرِ اسْتِطْرَادًا لِلْمُنَاسَبَةِ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّهُ أَوْفَرُ مَعْنًى وَأَوْسَعُ تَشْرِيعًا. وَتَقَدَّمَ بَيَانُ مَعَانِي السَّفَهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣٠] .

وَالْمُرَادُ بِالْأَمْوَالِ أَمْوَالُ الْمَحَاجِيرِ الْمَمْلُوكَةُ لَهُمْ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَارْزُقُوهُمْ

فِيها

وَأُضِيفَتِ الْأَمْوَالُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ بِ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) إِشَارَةً بَدِيعَةً إِلَى أَنَّ الْمَالَ الرَّائِجَ بَيْنَ النَّاسِ هُوَ حَقٌّ لِمَالِكِيهِ الْمُخْتَصِّينَ بِهِ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّهُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ تَلُوحُ فِيهِ حُقُوق الْأمة جَمْعَاءَ لِأَنَّ فِي حُصُولِهِ مَنْفَعَةً لِلْأُمَّةِ كُلِّهَا، لِأَنَّ مَا فِي أَيْدِي بَعْضِ أَفْرَادِهَا مِنَ الثَّرْوَةِ يَعُودُ إِلَى الْجَمِيعِ بِالصَّالِحَةِ، فَمِنْ تِلْكَ الْأَمْوَالِ يُنْفِقُ أَرْبَابُهَا وَيَسْتَأْجِرُونَ وَيَشْتَرُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ ثُمَّ تُورَثُ عَنْهُمْ إِذَا مَاتُوا فَيَنْتَقِلُ الْمَالُ بِذَلِكَ مِنْ يَدٍ إِلَى غَيْرِهَا فَيَنْتَفِعُ الْعَاجِزُ وَالْعَامِلُ وَالتَّاجِرُ وَالْفَقِيرُ وَذُو الْكَفَافِ، وَمَتَى قَلَّتِ الْأَمْوَالُ