للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْآيَةُ أَيْضًا صَرِيحَةٌ فِي أنّه إِذا لَمْ يَحْصُلِ الشَّرْطَانِ مَعًا: الْبُلُوغُ وَالرُّشْدُ، لَا يُدْفَعُ الْمَالُ لِلْمَحْجُورِ. وَاتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ عَامَّةُ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ رَشِيدًا بَعْدَ بُلُوغِهِ يَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ الْحَجْرُ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَبُو حَنِيفَةَ. قَالَ: يُنْتَظَرُ سَبْعَ سِنِينَ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ أُطْلِقَ مِنَ الْحَجْرِ. وَهَذَا يُخَالِفُ مُقْتَضَى الشَّرْطِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:

فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَعْتَبِرُ مَفْهُومَ الشَّرْطِ، وَهُوَ أَيْضًا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ إِذْ لَيْسَ الْحَجْرُ إِلَّا لِأَجْلِ السَّفَهِ وَسُوءِ التَّصَرُّفِ فَأَيُّ أَثَرٍ لِلْبُلُوغِ لَوْلَا أَنَّهُ مَظِنَّةُ الرُّشْدِ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ مَعَ الْبُلُوغِ فَمَا أَثَرُ سَبْعِ السِّنِينَ فِي تَمَامِ رُشْدِهِ.

وَدَلَّتِ الْآيَةُ بِحُكْمِ الْقِيَاسِ عَلَى أَنَّ مَنْ طَرَأَ عَلَيْهِ السَّفَهُ وَهُوَ بَالِغٌ أَوِ اخْتَلَّ عَقْلُهُ لِأَجْلِ مَرَضٍ فِي فِكْرِهِ، أَوْ لِأَجَلِ خَرَفٍ مِنْ شِدَّةِ الْكِبَرِ، أَنَّهُ يُحْجَرُ عَلَيْهِ إِذْ عِلَّةُ التَّحْجِيرِ ثَابِتَةٌ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ: لَا حَجْرَ عَلَى بَالِغٍ.

وَحُكْمُ الْآيَةِ شَامِلٌ لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاث بطرِيق التغليب: فَالْأُنْثَى الْيَتِيمَةُ إِذَا بَلَغَتْ رَشِيدَةً دُفِعَ مَالُهَا إِلَيْهَا.

وَالتَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ: رُشْداً تَنْكِيرُ النَّوْعِيَّةِ، وَمَعْنَاهُ إِرَادَةُ نَوْعِ الْمَاهِيَّةِ لِأَنَّ الْمَوَاهِي الْعَقْلِيَّةَ مُتَّحِدَةٌ لَا أَفْرَادَ لَهَا، وَإِنَّمَا أَفْرَادُهَا اعْتِبَارِيَّةٌ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْمَحَالِّ أَوْ تَعَدُّدِ الْمُتَعَلَّقَاتِ، فَرُشْدُ زَيْدٍ غَيْرُ رُشْدِ عَمْرٍو، وَالرُّشْدُ فِي الْمَالِ غَيْرُ الرُّشْدِ فِي سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ، وَفِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ، قَالَ تَعَالَى: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود: ٩٧] ، وَقَالَ عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود: ٨٧] . وَمَاهِيَّةُ الرُّشْدِ هِيَ انْتِظَامُ الْفِكْرِ وَصُدُورُ الْأَفْعَالِ عَلَى نَحْوِهِ بِانْتِظَامٍ، وَقَدْ عَلِمَ السَّامِعُونَ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا الرُّشْدُ فِي التَّصَرُّفِ الْمَالِيِّ، فَالْمُرَادُ مِنَ النَّوْعِيَّةِ نَحْوَ الْمُرَادِ مِنَ الْجِنْسِ، وَلِذَلِكَ سَاوَى الْمُعَرَّفَ بِلَامِ الْجِنْسِ النَّكِرَةِ، فَمِنَ الْعَجَائِبِ تَوَهُّمُ الْجَصَّاصِ أَنَّ فِي تَنْكِيرِ (رُشْداً) دَلِيلًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ حُسْنِ التَّصَرُّفِ وَاكْتِفَائِهِ بِالْبُلُوغِ، بِدَعْوَى أَنَّ اللَّهَ شَرَطَ رُشْدًا مَا وَهُوَ صَادِقٌ بِالْعَقْلِ إِذِ الْعَقْلُ رُشْدٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَمْ يَشْتَرِطِ الرُّشْدَ كُلَّهُ. وَهَذَا ضَعْفٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ الْعُمُومُ فِي الْمَوَاهِي الْعَقْلِيَّةِ الْمَحْضَةِ مَعَ أَنَّهَا لَا أَفْرَادَ لَهَا. وَقَدْ أُضِيفَتِ الْأَمْوَالُ هُنَا إِلَى ضَمِيرِ الْيَتَامَى: لِأَنَّهَا قَوِيَ اختصاصها بهم عِنْد مَا صَارُوا رُشَدَاءَ فَصَارَ تَصَرُّفُهُمْ فِيهَا لَا يُخَافُ مِنْهُ إِضَاعَةُ مَا لِلْقَرَابَةِ وَلِعُمُومِ الْأُمَّةِ مِنَ الْحَقِّ فِي الْأَمْوَالِ.