للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لِيَتَقَرَّرَ النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ. وَهُوَ تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى فِي الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ لِلتَّرْخِيصِ فِي ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ الْأَكْلِ، وَهُوَ أَنْ يَأْكُلَ الْوَصِيُّ الْفَقِيرُ مِنْ مَالِ مَحْجُورِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى إِنْفَاقِ بَعْضِ مَالِ الْيَتِيمِ فِي مَصْلَحَتِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُعْطِ وَصِيَّهُ الْفَقِيرَ بِالْمَعْرُوفِ أَلْهَاهُ التَّدْبِيرُ لِقُوتِهِ عَنْ تَدْبِيرِ مَالِ مَحْجُورِهِ.

وَفِي لَفْظِ الْمَعْرُوفِ (حَوَالَةٌ عَلَى مَا يُنَاسِبُ حَالَ الْوَصِيِّ وَيَتِيمِهِ بِحَسَبِ الْأَزْمَانِ

وَالْأَمَاكِنِ وَقَدْ أَرْشَدَ إِلَى ذَلِكَ

حَدِيث أبي دَاوُود: أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنِّي فَقِيرٌ وَلَيْسَ لِي شَيْءٌ» قَالَ: «كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمِكَ غَيْرَ مُسْرِف وَلَا مبادر وَلَا مُتَأَثِّلٍ»

. وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ عَائِشَةَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي وَلِيِّ الْيَتِيمِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَأْخُذُ الْوَصِيُّ بِقَدْرِ أُجْرَةِ مِثْلِهِ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُجَاهِدٌ: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِي الْقَرْضِ لَا غَيْرَ. قَالَ عُمَرُ: «إِنِّي نَزَّلْتُ نَفْسِي مِنْ مَالِ اللَّهِ مَنْزِلَةَ الْوَصِيِّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، إِنِ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ وَإِنِ احْتَجْتُ أَكَلْتُ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِذَا أَيْسَرْتُ قَضَيْتُ» وَقَالَ عَطَاءٌ، وَإِبْرَاهِيمُ: لَا قَضَاءَ عَلَى الْوَصِيِّ إِنْ أَيْسَرَ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، فِي رِوَايَةٍ: إِنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يَشْرَبَ اللَّبَنَ وَيَأْكُلَ مِنَ الثَّمَرِ وَيَهْنَأَ الْجَرْبَى مِنْ إِبِلِهِ وَيَلُوطَ الْحَوْضَ.

وَقِيلَ: إِنَّمَا ذَلِكَ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ: رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَهُوَ أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ لِأَنَّ اللَّهَ نَاطَ الْحُكْمَ بِالْفَقْرِ لَا بِالِاضْطِرَارِ، وَنَاطَهُ بِمَالِ الْيَتِيمِ، وَالِاضْطِرَارُ لَا يَخْتَصُّ بِالتَّسْلِيطِ عَلَى مَالِ الْيَتِيمِ بَلْ عَلَى كُلِّ مَالٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: لَا يَأْخُذُ إِلَّا إِذَا سَافَرَ مِنْ أَجْلِ الْيَتِيمِ يَأْخُذُ قُوتَهُ فِي السَّفَرِ. وَاخْتُلِفَ فِي وَصِيِّ الْحَاكِمِ هَلْ هُوَ مِثْلُ وَصِيِّ الْأَبِ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُمَا سَوَاءٌ، وَهُوَ الْحَقُّ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ تَخْصِيصٌ.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْوَصِيِّ الْغَنِيِّ هَلْ يَأْخُذُ أَجْرَ مِثْلِهِ عَلَى عَمَلِهِ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَسْتَعْفِفْ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلنَّدْبِ، فَمَنْ قَالَ لِلْوُجُوبِ قَالَ: لَا يَأْكُلُ الْغَنِيُّ شَيْئًا، وَهَذَا قَوْلُ كُلِّ مَنْ مَنَعَهُ الِانْتِفَاعَ بِأَكْثَرَ مِنَ السَّلَفِ وَالشَّيْءِ الْقَلِيلِ، وَهُمْ جُمْهُور تقدّمت أَسْمَاءَهُم. وَقِيلَ: الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ أَجْرَ مِثْلِهِ جَازَ لَهُ إِذَا كَانَ لَهُ عَمَلٌ وَخِدْمَةٌ، أَمَّا إِذَا كَانَ عَمَلُهُ مُجَرَّدَ التَّفَقُّدِ لِلْيَتِيمِ وَالْإِشْرَافِ عَلَيْهِ فَلَا أَجْرَ لَهُ.