وَجُعِلَ لَفْظُ (واللَّذَانِ) لِلنَّوْعَيْنِ لِأَنَّ مُفْرَدَهُ وَهُوَ الَّذِي صَالِحٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى النَّوْعِ، إِذِ النَّوْعُ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُذَكَّرِ مِثْلِ الشَّخْصِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَحَصَلَ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ تَفَنُّنٌ بَدِيعٌ فِي الْعِبَارَةِ فَكَانَتْ بِمَجْمُوعِ ذَلِكَ هَاتِهِ الْآيَةُ غَايَةً فِي الْإِعْجَازِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْمُرَادُ مِنَ النِّسَاءِ مَعْنَى مَا قَابَلَ الرِّجَالَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَجْدُرُ حَمْلُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَيْهِ.
وَالْأَذَى أُرِيدَ بِهِ هُنَا غَيْرُ الْحَبْسِ لِأَنَّهُ سَبَقَ تَخْصِيصُهُ بِالنِّسَاءِ وَغَيْرُ الْجَلْدِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ بَعْدُ، فَقِيلَ: هُوَ الْكَلَامُ الْغَلِيظُ وَالشَّتْمُ وَالتَّعْيِيرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ النَّيْلُ بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ وَضَرْبُ النِّعَالِ، بِنَاءً عَلَى تَأْوِيلِهِ أَنَّ الْآيَةَ شُرِعَتْ عُقُوبَةً لِلزِّنَا قَبْلَ عُقُوبَةِ الْجَلْدِ.
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أنّ هَذَا حكم مَنْسُوخٌ بِالْجَلْدِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ النُّورِ، وَبِمَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ مِنْ رَجْمِ الْمُحْصَنِينَ وَلَيْسَ تَحْدِيدُ هَذَا الْحُكْمِ بِغَايَةِ قَوْلِهِ: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا بِصَارِفٍ مَعْنَى النَّسْخِ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ كَمَا تَوَهَّمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، لِأَنَّ الْغَايَةَ جُعِلَتْ مُبْهَمَةً، فَالْمُسْلِمُونَ يَتَرَقَّبُونَ وُرُودَ حُكْمٍ آخَرَ، بَعْدَ هَذَا، لَا غِنًى لَهُمْ عَنْ إِعْلَامِهِمْ بِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ شَأْنَ النَّسْخِ فِي الْعُقُوبَاتِ عَلَى الْجَرَائِمِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِيهَا عُقُوبَةٌ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، أَنْ تُنْسَخَ بِأَثْقَلَ مِنْهَا، فَشُرِعَ الْحَبْسُ وَالْأَذَى لِلزُّنَاةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَشُرِعَ الْجَلْدُ بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ، وَالْجَلْدُ أَشَدُّ مِنَ الْحَبْسِ وَمِنَ الْأَذَى، وَقَدْ سُوِّيَ فِي الْجَلْدِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ
وَالرَّجُلِ، إِذِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا لَا وَجْهَ لِبَقَائِهَا، إِذْ كِلَاهُمَا قَدْ خَرَقَ حُكْمًا شَرْعِيًّا تَبَعًا لِشَهْوَةٍ نَفْسِيَّةٍ أَوْ طَاعَةً لِغَيْرِهِ.
ثُمَّ إِنَّ الْجَلْدَ الْمُعَيَّنَ شُرِعَ بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ مُطْلَقًا أَوْ عَامًّا عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي مَحْمَلِ التَّعْرِيفِ فِي قَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [النُّور: ٢] فَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ الْعَمَلُ بِهِ كَذَلِكَ فِي الزُّنَاةِ وَالزَّوَانِي: مُحْصَنِينَ أَوْ أَبْكَارًا، فَقَدْ نَسَخَهُ الرَّجْمُ فِي خُصُوصِ الْمُحْصَنِينَ مِنْهُمْ، وَهُوَ ثَابِتٌ بِالْعَمَلِ الْمُتَوَاتِرِ، وَإِنْ كَانَ الْجَلْدُ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ إِلَّا فِي الْبِكْرَيْنِ فَقَدْ قُيِّدَ أَوْ خُصِّصَ بِغَيْرِ الْمُحْصَنِينَ، إِذْ جُعِلَ حُكْمُهُمَا الرَّجْمَ. وَالْعُلَمَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْمُحْصَنِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الرَّجْمُ. وَالْمُحَصَنُ هُوَ مَنْ تَزَوَّجَ بِعَقْدٍ شَرْعِيٍّ صَحِيحٍ وَوَقَعَ الْبِنَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَقْدِ بِنَاءً صَحِيحًا. وَحُكْمُ الرَّجْمِ ثَبَتَ مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ فِي شَرِيعَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute