للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تَكُونُ عِنْدَ الْيَأْسِ مِنَ الْحَيَاةِ لِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنَ الْعَزْمِ تَرَتُّبُ آثَارِهِ عَلَيْهِ وَصَلَاح الْحل فِي هَذِهِ الدَّارِ بِالِاسْتِقَامَةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِذَا وَقَعَ الْيَأْسُ مِنَ الْحَيَاةِ ذَهَبَتْ فَائِدَةُ التَّوْبَةِ.

وَقَوْلُهُ: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ عطف الْكُفَّارِ عَلَى الْعُصَاةِ فِي شَرْطِ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْهُمْ لِأَنَّ إِيمَانَ الْكَافِرِ تَوْبَةٌ مِنْ كُفْرِهِ، وَالْإِيمَانَ أَشْرَفُ أَنْوَاعِ التَّوْبَةِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْكَافِرَ إِذا مَاتَ كَافِرًا لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ مِنَ الْكُفْرِ.

وَلِلْعُلَمَاءِ فِي تَأْوِيلِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا الْأَخْذُ بِظَاهِرِهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَحُولَ بَيْنَ الْكَافِرِ وَبَيْنَ قَبُولِ تَوْبَتِهِ مِنَ الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ إِلَّا حُصُولُ الْمَوْتِ، وَتَأَوَّلُوا مَعْنَى وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لَهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا نَدَمُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا مَاتَ كَافِرًا، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا آمَنَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ قُبِلَ إِيمَانُهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَقَدْ

ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» : أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بن أَبِي أُمَيَّةَ فَقَالَ: أَيْ عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَكَانَ آخِرُ مَا قَالَ أَبُو طَالِبٍ أَنَّهُ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِيءُ: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ.

فَنَزَلَتْ مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ

[التَّوْبَة: ١١٣] وَيُؤْذِنُ بِهِ عَطْفُ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ بِالْمُغَايَرَةِ بَيْنَ قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ. وَعَلَيْهِ فَوَجْهُ مُخَالَفَةِ تَوْبَتِهِ لِتَوْبَةِ الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي أَنَّ الْإِيمَانَ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ، وَنُطْقٌ لِسَانِيٌّ، وَقَدْ حَصَلَ مِنَ الْكَافِرِ التَّائِبِ وَهُوَ حَيٌّ، فَدَخَلَ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَقَوَّى بِهِ جَانِبُهُمْ وَفَشَتْ بِإِيمَانِهِ سُمْعَةُ الْإِسْلَامِ بَيْنَ أَهْلِ الْكُفْرِ.

وَثَانِيهمَا: أَنَّ الْكَافِرَ وَالْعَاصِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ سَوَاءٌ فِي عَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِمَّا هُمَا عَلَيْهِ، إِذَا حَضَرَهُمَا الْمَوْتُ. وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ بِأَنَّ مَعْنَاهُ يُشْرِفُونَ عَلَى الْمَوْتِ عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً [النِّسَاء: ٩] أَيْ لَوْ أَشْرَفُوا عَلَى أَنْ يَتْرُكُوا ذُرِّيَّةً. وَالدَّاعِي إِلَى التَّأْوِيلِ نَظْمُ الْكَلَامِ لِأَنَّ (لَا) عَاطِفَةٌ عَلَى مَعْمُولٍ لِخَبَرِ التَّوْبَةِ الْمَنْفِيَّةِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينِ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ