وَقَوْلُهُ: تُسَوَّى قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ- فَهُوَ مُضَارِعُ تَسَوَّى الَّذِي هُوَ مُطَاوِعُ سَوَّاهُ إِذَا جَعَلَهُ سَوَاءً لِشَيْءٍ آخَرَ أَيْ مُمَاثِلًا، لِأَنَّ السَّوَاءَ الْمِثْلُ فَأُدْغِمَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي السِّينِ وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ- عَلَى مَعْنَى الْقِرَاءَةِ السَّابِقَةِ لَكِنْ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ لِلتَّخْفِيفِ وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ تُسَوَّى- بِضَمِّ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ- مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ، أَيْ تُمَاثَلُ. وَالْمُمَاثَلَةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنَ التَّسْوِيَةِ تُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُمَاثَلَةً فِي
الذَّاتِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ تُرَابًا مِثْلَ الْأَرْضِ لِظُهُورِ أَنْ لَا يُقْصَدَ أَنْ تَصِيرَ الْأَرْضُ نَاسًا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُ الْكافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
[النبأ: ٤٠] . وَهَذَا تَفْسِيرُ الْجُمْهُورِ، وَعَلَى هَذَا فَالْكَلَامُ إِطْنَابٌ، قُصِدَ مِنْ إِطْنَابِهِ سُلُوكُ طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ عَنْ صَيْرُورَتِهِمْ تُرَابًا بِالْكِنَايَةِ الْمَطْلُوبِ بِهَا نِسْبَةٌ، كَقَوْلِهِمْ: الْمَجْدُ بَيْنَ ثَوْبَيْهِ، وَقَوْلِ زِيَادٍ الْأَعْجَمِ:
إِنَّ السَّمَاحَةَ وَالْمُرُوءَةَ وَالنَّدَى ... فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الْحَشْرَجِ
أَيْ أَنَّهُ سَمْحٌ ذُو مُرُوءَةٍ كَرِيمٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُمَاثَلَةً فِي الْمِقْدَارِ، فَقِيلَ: يَوَدُّونَ أَنَّهُمْ لَمْ يُبْعَثُوا وَبَقُوا مُسْتَوِينَ مَعَ الْأَرْضِ فِي بَطْنِهَا، وَقِيلَ: يَوَدُّونَ أَنْ يُدْفَنُوا حِينَئِذٍ كَمَا كَانُوا قَبْلَ الْبَعْثِ.
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي: أَنَّ الْمَعْنَى التَّسْوِيَةُ فِي الْبُرُوزِ وَالظُّهُورِ، أَيْ أَنْ تَرْتَفِعَ الْأَرْضُ فَتُسَوَّى فِي الِارْتِفَاعِ بِأَجْسَادِهِمْ، فَلَا يَظْهَرُوا، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ خَوْفِهِمْ وَذُلِّهِمْ، فَيَنْقَبِضُونَ وَيَتَضَاءَلُونَ حَتَّى يَوَدُّوا أَنْ يَصِيرُوا غَيْرَ ظَاهِرِينَ عَلَى الْأَرْضِ، كَمَا وَصَفَ أَحَدُ الْأَعْرَابِ يَهْجُو قوما من طيّء أَنْشَدَهُ الْمُبَرِّدُ فِي الْكَامِلِ:
إِذَا مَا قِيلَ أَيُّهُمْ لِأَيٍّ ... تَشَابَهَتِ الْمَنَاكِبُ وَالرُّؤُوسُ
وَهَذَا أَحْسَنُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَأَنْسَبُ بِالْكِنَايَةِ.
وَجُمْلَةُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ لَهَا عَلَى جُمْلَةِ يَوَدُّ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالِيَّةً، أَيْ يَوَدُّونَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ فِي حَالِ عَدَمِ كِتْمَانِهِمْ، فَكَأَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا اسْتِشْهَادَ الرُّسُلِ، وَرَأَوْا جَزَاءَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأُمَمِِِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute