ثُمَّ الرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ وَحُضُورِهِ ظَاهَرٌ وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ، وَأَمَّا الرَّدُّ إِلَيْهِ فِي غَيْبَتِهِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَبِالتَّحَاكُمِ إِلَى الْحُكَّامِ الَّذِينَ أَقَامَهُمُ الرَّسُولُ أَوْ أَمَرَهُمْ بِالتَّعْيِينِ، وَإِلَى الْحُكَّامِ الَّذِينَ نَصَّبَهُمْ وُلَاةُ الْأُمُورِ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ بِالشَّرِيعَةِ مِمَّنْ يُظَنُّ بِهِ الْعِلْمُ بِوُجُوهِ الشَّرِيعَةِ وَتَصَارِيفِهَا، فَإِنَّ تَعْيِينَ صِفَاتِ الْحُكَّامِ وَشُرُوطِهِمْ وَطُرُقِ تَوْلِيَتِهِمْ، فِيمَا وَرَدَ عَنِ الرَّسُولِ مِنْ أَدِلَّةِ صِفَاتِ الْحُكَّامِ، يَقُومُ مَقَامَ تَعْيِينِ أَشْخَاصِهِمْ، وَبِالتَّأَمُّلِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ وَسُنَّتِهِ ثُمَّ الصَّدَرِ عَلَى مَا يتبيّن للمتأمّل مِنْ حَالٍ يَظُنُّهَا هِيَ مُرَادُ الرَّسُولِ لَوْ سُئِلَ عَنْهَا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِ النِّزَاعِ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ وَاسْتِنْبَاطِ أَحْكَامِهَا الْمَسْكُوتِ عَنْهَا مِنَ الرَّسُولِ، أَوِ الْمَجْهُولِ قَوْلُهُ فِيهَا.
وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تَحْرِيضٌ وَتَحْذِيرٌ مَعًا، لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ووازعان يزعان عَن مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ، وَالتَّعْرِيضِ بِمَصَالِحِ الْأُمَّةِ لِلتَّلَاشِي، وَعَنِ الْأَخْذِ بِالْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا لَا تُرْضِي اللَّهَ وَتَضُرُّ الْأُمَّةَ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ دَأْبُ
الْمُسْلِمِ الصَّادِقِ الْإِقْدَامَ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْمَصَالِحِ، وَالتَّأَمُّلَ عِنْدَ الْتِبَاسِ الْأَمْرِ وَالصَّدْرَ بَعْدَ عَرْضِ الْمُشْكِلَاتِ عَلَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ.
وَمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ مَعَ أَنَّهُمْ خُوطِبُوا بِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ حَقًّا، وَتُلَازِمُونَ وَاجِبَاتِ الْمُؤْمِنِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ خَيْرٌ فَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْوِيهِ، وَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى الرَّدِّ الْمَأْخُوذِ مِنْ فَرُدُّوهُ. وَ (خَيْرٌ) اسْمٌ لِمَا فِيهِ نَفْعٌ، وَهُوَ ضِدُّ الشَّرِّ، وَهُوَ اسْمُ تَفْضِيلٍ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ، وَالْمُرَادُ كَوْنُ الْخَيْرِ وَقُوَّةُ الْحُسْنِ.
وَالتَّأْوِيلُ: مَصْدَرُ أَوَّلَ الشَّيْءَ إِذَا أَرْجَعَهُ، مُشْتَقٌّ مِنْ آلَ يَؤُولُ إِذَا رَجَعَ، وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى أَحْسَنُ رَدًّا وَصَرْفًا. أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَ قَوْلُهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ إِذْ بَعَثَهُ النَّبِيءُ فِي سَرِيَّةٍ.
وَأَخْرَجَ فِي «كِتَابِ الْمَغَازِي» عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيءُ سَرِيَّةً فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ أَمَرَكُمُ النَّبِيءُ أَنْ تُطِيعُونِي» قَالُوا:
«بَلَى» قَالَ: «فَأَجْمِعُوا حَطَبًا» فَجَمَعُوا، قَالَ: «أَوْقِدُوا نَارًا» ، فَأَوْقَدُوهَا، فَقَالَ «ادْخُلُوهَا» ، فَهَمُّوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا، وَيَقُولُونَ: «فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيءِ مِنَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute