للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ [آل عمرَان: ٢٥] وَقَدْ جَمَعَ الْأَمْرَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاء: ٤١] الْآيَةَ.

وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ جَاءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِهِمْ لِلسَّامِعِينَ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ، لِأَنَّهُمْ قَدْ حَصَلَ مِنْ ذِكْرِ صِفَاتِهِمْ مَا جَعَلَهُمْ كَالْمُشَاهَدِينَ، وَأَرَادَ بِمَا فِي قُلُوبِهِمُ الْكُفْرَ الَّذِي أَبْطَنُوهُ وَأَمَرَ رَسُولَهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ.

وَحَقِيقَةُ الْإِعْرَاضِ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَى الشَّيْءِ بِقَصْدِ التَّبَاعُدِ عَنْهُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُرْضِ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- وَهُوَ الْجَانِبُ، فَلَعَلَّ أَصْلَ الْهَمْزَةِ فِي فِعْلِ أَعْرَضَ لِلدُّخُولِ فِي الشَّيْءِ، أَيْ دَخَلَ فِي عُرْضِ الْمَكَانِ، أَوِ الْهَمْزَةُ لِلصَّيْرُورَةِ، أَيْ صَارَ ذَا عُرْضٍ، أَيْ جَانِبٍ، أَيْ أَظْهَرَ جَانِبَهُ لِغَيْرِهِ، وَلَمْ يُظْهِرْ لَهُ وَجْهَهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ اسْتِعْمَالًا شَائِعًا فِي التَّرْكِ وَالْإِمْسَاكِ عَنِ الْمُخَالَطَةِ وَالْمُحَادَثَةِ، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْإِعْرَاضَ غَالِبًا، يُقَالُ: أَعْرَضَ عَنْهُ كَمَا يُقَالُ: صَدَّ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الْأَنْعَام: ٦٨] وَلِذَلِكَ كَثُرَ هَذَا اللَّفْظُ فِي أَشْعَارِ الْمُتَيَّمِينَ رَدِيفًا لِلصُّدُودِ، وَهَذَا أَقْرَبُ الْمَعَانِي إِلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، فَهُوَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ، وَقَدْ شَاعَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْعَفْوِ وَعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِتَشْبِيهِ حَالَةِ مَنْ يَعْفُو بِحَالَةِ مَنْ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى الشَّيْءِ فَيُوَلِّيهِ عُرْضَ وَجْهِهِ، كَمَا اسْتُعْمِلَ صَفَحَ فِي هَذَا الْمَعْنَى مُشْتَقًّا مِنْ صَفْحَةِ الْوَجْهِ،

أَيْ جَانِبِهِ، وَهُوَ أَبْعَدُ عَنِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّشْبِيهِ.

وَالْوَعْظُ: الْأَمْرُ بِفِعْلِ الْخَيْرِ وَتَرْكِ الشَّرِّ بِطَرِيقَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ وَتَرْقِيقٌ يَحْمِلَانِ عَلَى الِامْتِثَالِ، وَالِاسْمُ مِنْهُ الْمَوْعِظَةُ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ [النِّسَاء: ٥٨] . فَهَذَا الْإِعْرَاضُ إِعْرَاضُ صَفْحٍ أَوْ إِعْرَاضُ عَدَمِ الْحُزْنِ مِنْ صُدُودِهِمْ عَنْكَ، أَيْ لَا تَهْتَمَّ بِصُدُودِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ مُجَازِيهِمْ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً، وَذَلِكَ إِبْلَاغٌ لَهُمْ فِي الْمَعْذِرَةِ، وَرَجَاءٌ لِصَلَاحِ حَالِهِمْ،. شَأْنَ النَّاصِحِ السَّاعِي بِكُلِّ وَسِيلَةٍ إِلَى الْإِرْشَادِ وَالْهُدَى.

وَالْبَلِيغُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى بَالِغٌ بُلُوغًا شَدِيدًا بِقُوَّةٍ، أَيْ: بَالِغًا إِلَى نُفُوسِهِمْ مُتَغَلْغِلًا فِيهَا.

وَقَوْلُهُ: فِي أَنْفُسِهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ بَلِيغًا، وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْمَجْرُورُ لِلِاهْتِمَامِ بِإِصْلَاحِ أَنْفُسِهِمْ مَعَ الرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِفِعْلِ قُلْ لَهُمْ، أَيْ قُلْ لَهُمْ قَوْلًا فِي شَأْنِ أَنْفُسِهِمْ، فَظَرْفِيَّةُ (فِي) ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ، شُبِّهَتْ أَنْفُسُهُمْ بِظَرْفٍ لِلْقَوْلِ