للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَدَلَّ قَوْلُهُ: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ عَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ السَّلَامِ شَيْءٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَهُمْ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ النُّورِ [٢٧] .

وَأَفَادَ قَوْلُهُ: بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ، وَيُعْلَمُ مِنْ تَقْدِيمِ قَوْلِهِ:

بِأَحْسَنَ مِنْها أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ.

وَحَيَّى أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ دَعَا لَهُ بِالْحَيَاةِ، وَلَعَلَّهُ مِنْ قَبِيلِ النَّحْتِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: حَيَّاكَ اللَّهُ، أَيْ وَهَبَ لَكَ طُولَ الْحَيَاةِ. فَيُقَالُ لِلْمَلِكِ: حَيَّاكَ اللَّهُ. وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي دُعَاءِ التَّشَهُّدِ (التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ) أَيْ هُوَ مُسْتَحِقُّهَا لَا مُلُوكُ النَّاسِ. وَقَالَ النَّابِغَةُ:

يُحَيَّوْنَ بِالرَّيْحَانِ يَوْمَ السَّبَاسِبِ أَيْ يُحَيَّوْنَ مَعَ تَقْدِيمِ الرَّيْحَانِ فِي يَوْمِ عِيدِ الشَّعَانِينِ- وَكَانَتِ التَّحِيَّةُ خَاصَّةً بِالْمُلُوكِ بِدُعَاءِ (حَيَّاكَ اللَّهُ) غَالِبًا، فَلِذَلِكَ أَطْلَقُوا التَّحِيَّةَ عَلَى الْمُلْكِ فِي قَوْلِ زُهَيْر بن جنّات الْكَلْبِيِّ:

وَلَكُلُّ مَا نَالَ الْفَتَى ... قَدْ نِلْتُهُ إِلَّا التَّحِيَّةَ

يُرِيدُ أَنَّهُ بَلَغَ غَايَةَ الْمَجْدِ سِوَى الْمُلْكِ. وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ الْمَعَرِّيُّ بِقَوْلِهِ:

تَحِيَّةُ كِسْرَى فِي الثَّنَاءِ وَتُبَّعِ ... لِرَبْعِكِ لَا أَرْضَى تَحِيَّةَ أَرْبُعِ

وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ آدَابِ الْإِسْلَامِ: عَلَّمَ اللَّهُ بِهَا أَنْ يَرُدُّوا عَلَى الْمُسَلِّمِ بِأَحْسَنَ مِنْ سَلَامِهِ أَوْ بِمَا يُمَاثِلُهُ، لِيَبْطُلَ مَا كَانَ بَيْنَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَفَاوُتِ السَّادَةِ وَالدَّهْمَاءِ. وَتَكُونُ التَّحِيَّةُ أَحْسَنَ بِزِيَادَةِ الْمَعْنَى، فَلِذَلِكَ قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [الذاريات:

٢٥] : إِنَّ تَحِيَّةَ إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ أَحْسَنَ إِذْ عَبَّرَ عَنْهَا بِمَا هُوَ أَقْوَى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَهُوَ رَفْعُ الْمَصْدَرِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الثَّبَاتِ وَتَنَاسِي الْحُدُوثِ الْمُؤْذِنِ بِهِ نَصْبُ الْمَصْدَرِ، وَلَيْسَ فِي لُغَةِ إِبْرَاهِيمَ مِثْلُ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ مِنْ بَدِيعِ التَّرْجَمَةِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي تَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَفِي رَدِّهَا وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الظَّرْفِ فِيهِ لِلِاهْتِمَامِ بِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ. وَقَالَ بَعْضُ

النَّاسِ: إِنَّ الْوَاوَ فِي رَدِّ السَّلَامِ تُفِيدُ مَعْنَى الزِّيَادَةِ فَلَوْ كَانَ الْمُسَلِّمُ بَلَغَ غَايَةَ التَّحِيَّةِ أَنْ يَقُولَ: