للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حَتَّى خَرَجَ يَوْمَ الْفَتْحِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَقِيَ الْحَارِثَ بْنَ زَيْدٍ بِقُبَاءٍ، وَكَانَ الْحَارِثُ قَدْ أَسْلَمَ وَلَمْ يَعْلَمْ عَيَّاشٌ بِإِسْلَامِهِ، فَضَرَبَهُ عَيَّاشٌ فَقَتَلَهُ، وَلَمَّا أُعْلِمَ بِأَنَّهُ مُسْلِمٌ رَجَعَ عَيَّاشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي صَنَعَ فَنَزَلَتْ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ.

وَفِي ابْنِ عَطِيَّةَ: قِيلَ نَزَلَتْ فِي الْيَمَانِ، وَالِدِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، حِينَ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ خَطَأً.

وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرِيِّ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ حِينَ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ، فَعَدَلَ إِلَى شِعْبٍ فَوَجَدَ رَجُلًا فِي غَنَمٍ لَهُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو الدَّرْدَاءِ بِالسَّيْفِ، فَقَالَ الرَّجُلُ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ وَجَاءَ بِغَنَمِهِ إِلَى السَّرِيَّةِ، ثُمَّ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا فَأَتَى إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ.

وَقَوْلُهُ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ الْفَاءُ رَابِطَةٌ لِجَوَابِ الشَّرْطِ، وَ (تَحْرِير) مَرْفُوعٌ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ مِنْ جُمْلَةِ الْجَوَابِ: لِظُهُورِ أَنَّ الْمَعْنَى: فَحُكْمُهُ أَوْ فَشَأْنُهُ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ كَقَوْلِهِ:

فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يُوسُف: ١٨] . وَالتَّحْرِيرُ تَفْعِيلٌ مِنَ الْحُرِّيَّةِ، أَيْ جَعْلُ الرَّقَبَةِ حُرَّةً. وَالرَّقَبَةُ أُطْلِقَتْ عَلَى الذَّاتِ مِنْ إِطْلَاقِ الْبَعْضِ عَلَى الْكُلِّ، كَمَا يَقُولُونَ، الْجِزْيَة على الرؤوس عَلَى كُلِّ رَأْسٍ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ.

وَمِنْ أَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ حِرْصُهَا عَلَى تَعْمِيمِ الْحُرِّيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ بِكَيْفِيَّةٍ مُنْتَظِمَةٍ،

فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا بَعَثَ رَسُولَهُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ كَانَتِ الْعُبُودِيَّةُ مُتَفَشِّيَةً فِي الْبَشَرِ، وَأُقِيمَتْ عَلَيْهَا ثَرَوَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَتْ أَسْبَابُهَا مُتَكَاثِرَةً: وَهِيَ الْأَسْرُ فِي الْحُرُوبِ، والتصيير فِي الدِّيوَان، وَالتَّخَطُّفُ فِي الْغَارَاتِ، وَبَيْعُ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ أَبْنَاءَهُمْ، وَالرَّهَائِنُ فِي الْخَوْفِ، وَالتَّدَايُنُ.

فَأَبْطَلَ الْإِسْلَامُ جَمِيعَ أَسْبَابِهَا عَدَا الْأَسْرِ، وَأَبْقَى الْأَسْرَ لِمَصْلَحَةِ تَشْجِيعِ الْأَبْطَالِ، وَتَخْوِيفِ أَهْلِ الدَّعَارَةِ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الْعَرَبِيَّ مَا كَانَ يَتَّقِي شَيْئًا مِنْ عَوَاقِبِ الْحُرُوبِ مِثْلَ الْأَسْرِ، قَالَ النَّابِغَةُ:

حِذَارًا عَلَى أَنْ لَا تُنَالَ مقادتي ... وَلَا نسوتهي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرَا