قَتَلْتُ بِهِ فِهْرًا وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ ... سُرَاةَ بَنِي النَّجَّارِ أَرْبَابَ فَارِعِ (١)
حَلَلْتُ بِهِ وِتْرِي وَأَدْرَكْتُ ثَأْرَتِي ... وَكُنْتُ إِلَى الْأَوْثَانِ أَوَّلَ رَاجِعِ
وَقَدْ أَهْدَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَقُتِلَ بِسُوقِ مَكَّةَ.
وَقَوْلُهُ: خالِداً فِيها مَحْمَلُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ عَلَى طُولِ الْمُكْثِ فِي النَّارِ لِأَجْلِ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا، لِأَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ لَيْسَ كُفْرًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا خُلُودَ فِي النَّارِ إِلَّا لِلْكُفْرِ، عَلَى قَوْلِ عُلَمَائِنَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْخُلُودِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي طُولِ الْمُكْثِ،
وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ عَرَبِيٌّ. قَالَ النَّابِغَةُ فِي مَرَضِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ:
وَنَحْنُ لَدَيْهِ نَسْأَلُ اللَّهَ خُلْدَهُ ... يَرُدُّ مَلْكًا وَلِلْأَرْضِ عَامِرَا
وَمَحْمَلُهُ عِنْدَ مَنْ يُكَفِّرُ بِالْكَبَائِرِ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَعِنْدَ مَنْ يُوجِبُ الْخُلُودَ عَلَى أَهْلِ الْكَبَائِرِ، عَلَى وَتِيرَةِ إِيجَابِ الْخُلُودِ بِارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ.
وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ تَرِدُ عَلَى جَرِيمَةِ قَتْلِ النَّفْسِ عَمْدًا، كَمَا تَرِدُ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْكَبَائِرِ، إِلَّا أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ شَذَّ شُذُوذًا بَيِّنًا فِي مَحْمَلِ هَذِهِ الْآيَةِ: فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ قَاتِلَ النَّفْسِ مُتَعَمِّدًا لَا تُقْبَلُ لَهُ تَوْبَةٌ، وَاشْتَهَرَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُرِفَ بِهِ، أَخْذًا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ:
آيَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ، فَرَحَلْتُ فِيهَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَقَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها الْآيَةَ: هِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ وَمَا نَسَخَهَا شَيْءٌ، فَلَمْ يَأْخُذْ بِطَرِيقِ التَّأْوِيلِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
فَحَمَلَهُ جَمَاعَةٌ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقَالُوا: إِنَّ مُسْتَنَدَهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ، فَقَدْ نَسَخَتِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، الَّتِي تَقْتَضِي عُمُومَ التَّوْبَةِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاء: ١١٦] ، فَقَاتِلُ النَّفْسِ مِمَّنْ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ يَغْفِرَ لَهُ وَمِثْلُ قَوْلِهِ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى [طه: ٨٢] ، وَمِثْلُ قَوْلِهِ:
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً [الْفرْقَان: ٦٨، ٦٩] .
(١) فارع اسْم حصن فِي الْمَدِينَة لبني النجار.