للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [الْحَشْر: ٢٠] . وَإِذْ قَدْ كَانَ وَجْهُ التَّفَاضُلِ مَعْلُومًا فِي أَكْثَرِ مَوَاقِعِ أَمْثَالِ هَذَا التَّرْكِيبِ، صَارَ فِي الْغَالِبِ أَمْثَالُ هَذَا التَّرْكِيبِ مُسْتَعْمَلَةً فِي مَعْنَى الْكِنَايَةِ، وَهُوَ التَّعْرِيضُ بِالْمَفْضُولِ فِي تَفْرِيطِهِ

وَزُهْدِهِ فِيمَا هُوَ خَيْرٌ مَعَ الْمُكْنَةِ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ هُوَ هُنَا لِظُهُورِ أَنَّ الْقَاعِدَ عَنِ الْجِهَادِ لَا يُسَاوِي الْمُجَاهِدَ فِي فَضِيلَةِ نُصْرَةِ الدِّينِ، وَلَا فِي ثَوَابِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَتَعَيَّنَ التَّعْرِيضُ بِالْقَاعِدِينَ وَتَشْنِيعُ حَالِهِمْ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَوْقِعُ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ كَيْلَا يَحْسَبَ أَصْحَابُ الضَّرَرِ أَنَّهُمْ مَقْصُودُونَ بِالتَّحْرِيضِ فَيَخْرُجُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَيُكَلِّفُوهُمْ مَؤُونَةَ نَقْلِهِمْ وَحِفْظِهِمْ بِلَا جَدْوَى، أَوْ يَظُنُّوا أَنَّهُمْ مَقْصُودُونَ بِالتَّعْرِيضِ فَتَنْكَسِرُ لِذَلِكَ نُفُوسُهُمْ، زِيَادَةً عَلَى انْكِسَارِهَا بِعَجْزِهِمْ، وَلِأَنَّ فِي اسْتِثْنَائِهِمْ إِنْصَافًا لَهُمْ وَعُذْرًا بِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا قَادِرِينَ لَمَا قَعَدُوا، فَذَلِكَ الظَّنُّ بِالْمُؤْمِنِ، وَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ صَرِيحَ الْمَعْنَى لَمَا كَانَ لِلِاسْتِثْنَاءِ مَوْقِعٌ. فَاحْفَظُوا هَذَا فَالِاسْتِثْنَاءُ مَقْصُودٌ، وَلَهُ مَوْقِعٌ من البلاغة لايضاع، وَلَوْ لَمْ يُذْكَرُ الِاسْتِثْنَاءُ لَكَانَ تَجَاوُزُ التَّعْرِيضِ أَصْحَاب الضَّرَر مَعْلُومَات فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ فَالِاسْتِثْنَاءُ عُدُولٌ عَنِ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْقَرِينَةِ إِلَى التَّصْرِيحِ بِاللَّفْظِ. وَيَدُلُّ لِهَذَا مَا

فِي «الصَّحِيحَيْنِ» ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَأَنَا إِلَى جَنْبِهِ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ:

اكْتُبْ، فَكَتَبْتُ فِي كَتِفٍ (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) ، وَخَلْفَ النَّبِيءِ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ لَجَاهَدْتُ، فَنَزَلَتْ مَكَانَهَا لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

الْآيَةَ. فَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَهِمَ الْمَقْصُودَ مِنْ نَفْيِ الِاسْتِوَاءِ فَظَنَّ أَنَّ التَّعْرِيضَ يَشْمَلُهُ وَأَمْثَالَهُ، فَإِنَّهُ مِنَ الْقَاعِدِينَ، وَلِأَجْلِ هَذَا الظَّنِّ عَدَلَ عَنْ حِرَاسَةِ الْمَقَامِ إِلَى صَرَاحَةِ الْكَلَامِ، وَهُمَا حَالَانِ مُتَسَاوِيَانِ فِي عُرْفِ الْبُلَغَاءِ، هُمَا حَالُ مُرَاعَاةِ خِطَابِ الذَّكِيِّ وَخِطَابِ الْغَبِيِّ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ زِيَادَةُ الِاسْتِثْنَاءِ مُفِيتَةً مُقْتَضَى حَالٍ مِنَ الْبَلَاغَةِ، وَلَكِنَّهَا مُعَوِّضَتُهُ بِنَظِيرِهِ لِأَنَّ السَّامِعِينَ أَصْنَافٌ كَثِيرَةٌ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ: غَيْرُ- بِنَصْبِ الرَّاءِ- عَلَى الْحَالِ مِنَ الْقاعِدُونَ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ- بِالرَّفْعِ- عَلَى النَّعْتِ لِ الْقاعِدُونَ.