للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الدُّعَاءِ بُعْدًا. وَسِيَاقُ هَذِهِ الْآيَةِ كَسِيَاقِ أُخْتِهَا فِي قَوْلِهِ: فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الْأَعْرَاف: ١٣- ١٦] الْآيَةَ فَكُلُّهَا أَخْبَارٌ. وَهِيَ تُشِيرُ إِلَى مَا كَانَ فِي أَوَّلِ خَلْقِ الْبَشَرِ مِنْ تَنَافُرِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ لِأَحْوَالِ الْبَشَرِ، وَنَشْأَةِ الْعَدَاوَةِ عَنْ ذَلِكَ التَّنَافُرِ، وَمَا كَوَّنَهُ اللَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الذَّوْدِ عَنْ مَصَالِحِ الْبَشَرِ أَنْ تَنَالَهَا الْقُوَى الشَّيْطَانِيَّةُ نَوَالَ إِهْلَاكٍ بِحِرْمَانِ الشَّيَاطِينِ مِنْ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ مُدَاخَلَتِهِمْ فِي مَوَاقِعِ الصَّلَاحِ، إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا تَنْتَهِزُ تِلْكَ الْقُوَى مِنْ فَرْضِ مَيْلِ الْقُوَى الْبَشَرِيَّةِ إِلَى الْقُوَى الشَّيْطَانِيَّةِ وَانْجِذَابِهَا، فَتِلْكَ خُلَسٌ تَعْمَلُ الشَّيَاطِينُ فِيهَا عَمَلَهَا، وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الْحجر: ٤١، ٣٢] . وَتِلْكَ أَلْطَافٌ مِنَ اللَّهِ أَوْدَعَهَا فِي نِظَامِ الْحَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ عِنْدَ التَّكْوِينِ، فَغَلَبَ بِسَبَبِهَا الصَّلَاحُ عَلَى جَمَاعَةِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَبَقِيَ مَعَهَا مِنَ الشُّرُورِ حَظٌّ يَسِيرٌ يَنْزِعُ فِيهِ الشَّيْطَانُ مَنَازِعَهُ وَكَّلَ اللَّهُ أَمْرَ الذِّيَادِ عَنْهُ إِلَى إِرَادَةِ الْبَشَرِ، بَعْدَ تَزْوِيدِهِمْ بِالنُّصْحِ وَالْإِرْشَادِ بِوَاسِطَةِ الشَّرَائِعِ وَالْحِكْمَةِ.

فَمَعْنَى الْحِكَايَةِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِي الشَّيْطَانِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا أَيْقَنَ بِمُقْتَضَاهُ أَنَّ فِيهِ الْمَقْدِرَةَ عَلَى فِتْنَةِ الْبَشَرِ وَتَسْخِيرِهِمْ، وَكَانَتْ فِي نِظَامِ الْبَشَرِ فُرَصٌ تَدْخُلُ فِي خِلَالِهَا آثَارُ فِتْنَةِ الشَّيْطَانِ، فَذَلِكَ هُوَ النَّصِيبُ الْمَفْرُوضُ، أَيِ الْمَجْعُولُ بِفَرْضِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ فِي أَصْلِ الْجِبِلَّةِ. وَلَيْسَ قَوْلُهُ: مِنْ عِبادِكَ إِنْكَارًا مِنَ الشَّيْطَانِ لِعُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ، وَلَكِنَّهَا جَلَافَةُ الْخِطَابِ النَّاشِئَةُ عَنْ خَبَاثَةِ التَّفْكِيرِ الْمُتَأَصِّلَةِ فِي جِبِلَّتِهِ، حَتَّى لَا يَسْتَحْضِرَ الْفِكْرَ مِنَ الْمَعَانِي الْمَدْلُولَةِ إِلَّا مَا لَهُ فِيهِ هَوًى، وَلَا يَتَفَطَّنُ إِلَى مَا يَحُفُّ بِذَلِكَ مِنَ الْغِلْظَةِ، وَلَا إِلَى مَا يَفُوتُهُ مِنَ الْأَدَبِ وَالْمَعَانِي الْجَمِيلَةِ، فَكُلُّ حَظٍّ كَانَ لِلشَّيْطَانِ فِي تَصَرُّفَاتِ الْبَشَرِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْمَعْنَوِيَّةِ: كَالْعَقَائِدِ وَالتَّفْكِيرَاتِ الشِّرِّيرَةِ، وَمِنْ أَعْمَالِهِمُ الْمَحْسُوسَةِ: كَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَالْإِعْلَانِ بِخِدْمَةِ الشَّيْطَانِ: كَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَالتَّقْرِيبِ لَهَا، وَإِعْطَاءِ أَمْوَالِهِمْ لِضَلَالِهِمْ، كُلُّ ذَلِكَ مِنَ النَّصِيبِ الْمَفْرُوضِ.

وَمَعْنَى وَلَأُضِلَّنَّهُمْ إِضْلَالُهُمْ عَنِ الْحَقِّ. وَمَعْنَى: وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ لَأَعِدَنَّهُمْ مَوَاعِيدَ كَاذِبَةً، أُلْقِيهَا فِي نُفُوسِهِمْ، تَجْعَلُهُمْ يَتَمَنَّوْنَ، أَيْ يُقَدِّرُونَ غَيْرَ الْوَاقِعِ وَاقِعًا، إِغْرَاقًا،