وَجُمْلَةُ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النِّسَاء: ١١٦] .
وَجُعِلَ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى وَصِيَّةً: لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ قَوْلٌ فِيهِ أَمْرٌ بِشَيْءٍ نَافِعٍ جَامِعٍ لِخَيْرٍ كَثِيرٍ، فَلِذَلِكَ كَانَ الشَّأْنُ فِي الْوَصِيَّةِ إِيجَازَ الْقَوْلِ لِأَنَّهَا يُقْصَدُ مِنْهَا وَعْيُ السَّامِعِ، وَاسْتِحْضَارُهُ كَلِمَةَ الْوَصِيَّةِ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ. وَالتَّقْوَى تَجْمَعُ الْخَيْرَاتِ، لِأَنَّهَا امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابُ الْمَنَاهِي، وَلِذَلِكَ قَالُوا: مَا تَكَرَّرَ لَفْظٌ فِي الْقُرْآنِ مَا تَكَرَّرَ لَفْظُ التَّقْوَى، يَعْنُونَ غَيْرَ الْأَعْلَامِ، كَاسْمِ الْجَلَالَةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا، قَالَ:
«أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ»
. فَذِكْرُ التَّقْوَى فِي أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ إِلَخْ تَفْسِيرٌ لِجُمْلَةِ وَصَّيْنَا، فَأَنْ فِيهِ تَفْسِيرِيَّةٌ. وَالْإِخْبَارُ بِأَنَّ اللَّهَ أَوْصَى الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ بِالتَّقْوَى مَقْصُودٌ مِنْهُ إِلْهَابُ هِمَمِ الْمُسْلِمِينَ لِلتَّهَمُّمِ بِتَقْوَى اللَّهِ لِئَلَّا تَفْضُلَهُمُ الْأُمَمُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّ لِلِائْتِسَاءِ أَثَرًا بَالِغًا فِي النُّفُوسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [الْبَقَرَة: ١٨٣] ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْكِتَابِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَيَصْدُقُ بِالْمُتَعَدِّدِ.
وَالتَّقْوَى الْمَأْمُورُ بِهَا هَنَا مَنْظُورٌ فِيهَا إِلَى أَسَاسِهَا وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلِذَلِكَ قُوبِلَتْ بِجُمْلَةِ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.
وَبَيَّنَ بِهَا عَدَمَ حَاجَتِهِ تَعَالَى إِلَى تَقْوَى النَّاسِ، وَلَكِنَّهَا لِصَلَاحِ أَنْفُسِهِمْ، كَمَا قَالَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [الزمر: ٧] . فَقَوْلُهُ: فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ التَّضَرُّرِ بِعِصْيَانِ مَنْ يَعْصُونَهُ، وَلِذَلِكَ جَعَلَهَا
جَوَابًا لِلشَّرْطِ، إِذِ التَّقْدِيرُ فَإِنَّهُ غَنِيٌّ عَنْكُمْ. وَتَأَيَّدَ ذَلِكَ الْقَصْدُ بِتَذْيِيلِهَا بِقَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً أَيْ غَنِيًّا عَنْ طَاعَتِكُمْ، مَحْمُودًا لِذَاتِهِ، سَوَاءٌ حَمِدَهُ الْحَامِدُونَ وَأَطَاعُوهُ، أَمْ كَفَرُوا وَعَصَوْهُ.
وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ جُمْلَةَ وَإِنْ تَكْفُرُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ فَهِيَ مِنْ تَمَامِ الْوَصِيَّةِ، أَيْ مِنْ مَقُولِ الْقَوْلِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِ وَصَّيْنَا، فَيَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ حَمِيداً.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute