وَعَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا فَاسْمُ الْمَوْصُولِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ ... كَفَرُوا مُرَادٌ مِنْهُ فَرِيقٌ مَعْهُودٌ، فَالْآيَةُ وَعِيدٌ لَهُمْ وَنِذَارَةٌ بِأَنَّ اللَّهَ حَرَمَهُمُ الْهُدَى فَلَمْ يَكُنْ لِيَغْفِرَ لَهُمْ، لِأَنَّهُ حَرَمَهُمْ سَبَبَ الْمَغْفِرَةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّ مِنْ أَحْوَالِ الْكُفْرِ مَا لَا يَنْفَعُ الْإِيمَانُ بَعْدَهُ. فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَلَوْ كَفَرَ الْمَرْءُ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَأَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الذُّنُوبِ كَذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شِبْهُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٩٠] وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ.
فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَأَخْبَرَ بِنَفْيِ أَنْ يَهْدِيَهُمْ وَأَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ، فَإِذَنْ لَا فَائِدَةَ فِي الطَّلَبِ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بَعْدَ هَذَا الْكَلَامِ، فَهَلْ هُمْ مَخْصُوصُونَ مِنْ آيَاتِ عُمُومِ الدَّعْوَةِ.
قُلْتُ: الْأَشْخَاصُ الَّذِينَ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، كَأَبِي جَهْلٍ، وَلَمْ يُخْبِرْ نَبِيئَهُ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فَهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ مَعَ عُمُومِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ لَمْ يُنْصَبْ عَلَيْهِ أَمَارَةٌ، كَمَا عُلِمَ مِنْ مَسْأَلَةِ (التَّكْلِيف بالمحال الْعَارِض) فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَلَوْ كَانُوا مَعْرُوفِينَ بِأَعْيَانِهِمْ لَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ صَارِفَةً عَنْ دَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ بَعْدُ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مَعْرُوفِينَ بِأَعْيَانِهِمْ فَالْقَوْلُ فِيهِمْ كَالْقَوْلِ فِيمَنْ عَلِمَ اللَّهُ عَدَمَ إِيمَانِهِ وَلَمْ يُخْبِرْ بِهِ، وَلَيْسَ ثَمَّةَ ضَابِطٌ يَتَحَقَّقُ بِهِ أَنَّهُمْ دُعُوا بِأَعْيَانِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا.
وَالنَّفْيُ فِي قَوْلِهِ: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ أَبْلَغُ مِنْ: لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُمْ، لِأَنَّ أَصْلَ وَضْعِ هَذِهِ الصِّيغَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ اسْمَ كَانَ لَمْ يُجْعَلْ لِيَصْدُرَ مِنْهُ خَبَرُهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَمْ يُجْعَلُ لِشَيْءٍ يَكُونُ نَابِيًا عَنْهُ، لِأَنَّهُ ضِدُّ طَبْعِهِ، وَلَقَدْ أَبْدَعَ النُّحَاةُ فِي تَسْمِيَةِ اللَّامِ الَّتِي بَعْدَ كَانَ الْمَنْفِيَّةِ (لَام الْجُحُود) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute