للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَفِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [آل عمرَان: ٨٤] إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الرُّسُلِ، وَالْآيَةُ هَذِهِ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَعْضِ رُسُلِهِ، وَمَآلُ الْجَمِيعِ وَاحِدٌ: لِأَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الرُّسُلِ يَسْتَلْزِمُ التَّفْرِيقَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَعْضِ رُسُلِهِ.

وَإِضَافَةُ الْجَمْعِ إِلَى الضَّمِيرِ هُنَا لِلْعَهْدِ لَا لِلْعُمُومِ بِالْقَرِينَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ.

وَجُمْلَةُ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَاقِعَةٌ فِي مَعْنَى الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَلَكِنَّهَا عُطِفَتْ لِأَنَّهَا شَأْنٌ خاصّ من شؤونهم، إِذْ مَدْلُولُهَا قَوْلٌ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الشَّنِيعَةِ، وَمَدْلُولُ يُرِيدُونَ هَيْئَةٌ حَاصِلَةٌ مِنْ كُفْرِهِمْ، فَلِذَلِكَ حَسُنَ الْعَطْفُ بِاعْتِبَارِ الْمُغَايَرَةِ وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَوْ فُصِلَتْ لَكَانَ صَحِيحًا.

وَمَعْنَى يَقُولُونَ نُؤْمِنُ الْخَ أَنَّ الْيَهُودَ يَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَبِمُوسَى وَنَكْفُرُ بِعِيسَى

وَمُحَمَّدٍ، وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَبِمُوسَى وَعِيسَى وَنَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ، فَآمَنُوا بِاللَّهِ وَبَعْضِ رُسُلِهِ ظَاهِرًا وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَعْضِ رُسُلِهِ.

وَالْإِرَادَةُ فِي قَوْلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا إِرَادَةٌ حَقِيقِيَّةٌ. وَالسَّبِيلُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ سَبِيلَ النَّجَاةِ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ تَوَهُّمًا أَنَّ تِلْكَ حِيلَةٌ تُحَقِّقُ لَهُمُ السَّلَامَةَ عَلَى تَقْدِيرِ سَلَامَةِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ سَبِيلَ التَّنَصُّلِ مِنَ الْكُفْرِ بِبَعْضِ الرُّسُلِ، أَوْ سَبِيلًا بَيْنَ دِينَيْنِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ الْأَخِيرَانِ يُنَاسِبَانِ انْتِقَالَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ الظَّاهِرِ إِلَى النِّفَاقِ، فَكَأَنَّهُمَا تَهْيِئَةٌ لِلنِّفَاقِ.

وَهَذَا التَّفْسِيرُ جَارٍ عَلَى ظَاهِرِ نَظْمِ الْكَلَامِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَرْفُ الْعَطْفِ مُشَرِّكًا بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ فِي حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ الأول صلَة للَّذين، كَانَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ صِلَاتٍ لِذَلِكَ الْمَوْصُولِ وَكَانَ ذَلِكَ الْمَوْصُولُ صَاحِبَ تِلْكَ الصِّلَاتِ كُلِّهَا.