عَلَيْهِ مِثْلُ مَا أُنْزِلَتِ الْأَلْوَاحُ فِيهَا الْكَلِمَاتُ الْعَشْرُ عَلَى مُوسَى، وَلَمْ يُرِيدُوا جَمِيعَ التَّوْرَاةِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَإِنَّ كِتَابَ التَّوْرَاةِ لَمْ يُنَزَّلْ دُفْعَةً وَاحِدَةً. فَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ هُنَا خُصُوصُ الْيَهُودِ.
وَالْكِتَابُ هُنَا إِمَّا اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْمَكْتُوبِ كَمَا نَزَلَتْ أَلْوَاحُ مُوسَى، وَإِمَّا اسْمٌ لِقِطْعَةٍ مُلْتَئِمَةٍ مِنْ أَوْرَاقٍ مَكْتُوبَةٍ، فَيَكُونُونَ قَدْ سَأَلُوا مُعْجِزَةً تُغَايِرُ مُعْجِزَةَ مُوسَى.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى فَاءُ الْفَصِيحَةِ دالّة على مقدّرة دَلَّتْ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ الْمُرَادُ مِنْهَا التَّعْجِيبُ، أَيْ فَلَا تَعْجَبْ مِنْ هَذَا فَإِنَّ ذَلِكَ شَنْشَنَةٌ قَدِيمَةٌ لِأَسْلَافِهِمْ مَعَ رَسُولِهِمْ إِذْ سَأَلُوهُ مُعْجِزَةً أَعْظَمَ مِنْ هَذَا، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى حَالَتِهِمْ بِحَالَةِ أَسْلَافِهِمْ مِنْ
قَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَخْلَاقِ الْأُمَمِ وَالْقَبَائِلِ عَلَى أَحْوَالِ الْعَشَائِرِ مِنْهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ كَثِيرٍ مِنْهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَفِي هَذَا الْكَلَامِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَلَالَةٌ عَلَى جَرَاءَتِهِمْ، وَإِظْهَارُ أَنَّ الرُّسُلَ لَا تَجِيءُ بِإِجَابَةِ مُقْتَرَحَاتِ الْأُمَمِ فِي طَلَبِ الْمُعْجِزَاتِ بَلْ تَأْتِي الْمُعْجِزَاتُ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ تَحَدِّي الْأَنْبِيَاءِ، وَلَوْ أَجَابَ اللَّهُ الْمُقْتَرِحِينَ إِلَى مَا يَقْتَرِحُونَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ لَجَعَلَ رُسُلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُشَعْوِذِينَ وَأَصْحَابِ الْخَنْقَطَرَاتِ وَالسِّيمِيَاءِ، إِذْ يَتَلَقَّوْنَ مُقْتَرَحَاتِ النَّاسِ فِي الْمَحَافِلِ وَالْمَجَامِعِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَهَذَا مِمَّا يَحُطُّ مِنْ مِقْدَارِ الرِّسَالَةِ.
وَفِي إِنْجِيلِ مَتَّى: أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلْمَسِيحِ: نُرِيدُ أَنْ نَرَى مِنْكَ آيَةً فَقَالَ: «جِيلٌ شِرِّيرٌ يَطْلُبُ آيَةً وَلَا تُعْطَى لَهُ آيَةٌ» . وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي وَاقِعَةٍ أُخْرَى. وَقَدْ يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ عِيسَى: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ- إِلَى قَوْلِهِ- قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [الْمَائِدَة: ١١٢، ١١٥] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [الْإِسْرَاء: ٥٩] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute